الحكم العطائية ... "لأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خيرٌ لك من أنْ تصحبَ عالما يرضى عن نفسه"

الأحد 12 كانون الثاني , 2020 03:37 توقيت بيروت تصوّف

الثبات - التصوف

 

"لأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خيرٌ لك من أنْ تصحب عالماً يرضى عن نفسه، طلبكُ منه يكون بالتضرعِ والابتهال وطلبكُ له يكون بالبحث والاستدلال"

 

هذه الحكمة المباركة موجهة إلى أهل الرسوخ في السلوك إلى الله عز وجل، إذ همّها التكميل من خلال تجلية مقدمات أربع بعضها دون بعض، يؤدي عدم الانتباه إليها إلى الاجتيال عن بلوغ السالكين الأرب في ارتقاء مدارج القرب.

 طلبكُ لغيره يكون بالتعرف والأقبال وطلبك من غيره يكون بالتملق والسؤال وحاصلها أربعة طلب الحق ومنه طلب الباطل ومنه وكلها مدخولة عند المحققين.

 أما طلبك منه فلوجود تهمتك له لأنك إنما طلبته مخافة أن يهملك أو يغفل عنك فإنما ينبه من يجوز منه الإغفاء وإنما يذكر من يمكن منه الإهمال وما الله بغافل عما تعلمون أليس الله بكاف عبده، وقال صلى الله عليه وسلم من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين فالسكون تحت مجاري الأقدار أفضل عند العارفين من التضرع والابتهال.

 وكان الشيخ العربي رضي الله عنه يقول الفقير الصادق لم تبق له حالة يطلبها وأن كان لابدَّ من الطلب فليطلب المعرفة وإذا ورد منهم الدعاء فإنما هو عبودية وحكمة لا طلباً للقسمة إذا ما قسم لك واصل إليك.

 وفي المسألة خلاف بين الصوفية هل السكوت أولى أو الدعاء والتحقيق أن ينظر ما يتجلى فيه وينشرح له الصدر فهو المراد منه وأما طلبك له فهو دليل على غيبتك عنه بوجود نفسك فلو حضر قلبك وغبت عن نفسك ووهمك لما وجدت غيره.

أراك تسأل عن نجد وأنت بها ... وعن تهامة هذا فعل متهم

وقال ابن المرحل السبتي رضي الله عنه:

ومن عجب أني أحن إليهم ... وأسأل شوقاً عنهم وهم معي

وتبكيهم عيني وهم بسوادها ... ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي

 

وأما طلبك لغيره أي لمعرفة غيره فلقلة حيائك منه وعدم أنسك به أما وجه قلة حيائك منه فلأنه يناديك إلى الحضرة وأنت تفر منه إلى الغفلة ومثال ذلك كمن كان في حضرة الملك والملك مقبل عليه ثم يجعل هو يريد الخروج منها ويلتفت إلى غيره فهذا يدل على قلة حيائه وعدم اعتنائه بالملِك فهو حقيق بأن يطرد إلى الباب أو إلى الباب أو إلى سياسة الدواب وقد قالوا أنكر من تعرف ولا تتعرف لمن لا تعرف وأما وجه عدم أنسك به فلأنك لو أنست به لاستوحشت من خلقه فلا يتصور منك طلب معرفتهم وأنت تفر منهم فإذا آنسك به أوحشك من خلقه وبالعكس والاستئناس بالناس من علامة الإفلاس إقبالك على الحق أدبارك عن الخلق وإقبالك على الخلق إدبارك عن الحق وقد عدوا من أصول الطريق الأعراض عن الخلق في الأقبال والأدبار.

 وفي بعض الكتب المنزلة يقول الله تبارك وتعالى إذا أنزلت بعبدي حاجة فرفعها إلى أعلم ذلك من نيته لو كادته السموات السبع والأرضون السبع لجعلت من أمره فرجاً ومخرجاً وإذا أنزلت بعبدي حاجة فرفعها إلى غيري أضحت الأرض من تحته وأسقطت السماء من فوقه وقطعت الأسباب فيما بيني وبينه أو كما قال لطول العهد به فتحصل أن الأدب هو الاكتفاء بعلم الله والتحقق بمعرفة الله والاستغناء به عما سواه والله تعالى.

ثم ذكر الأدب السادس وهو التسليم والرضى بما يجري به القدر والقضاء فقال ما من نفس تبديه ألا وله قدر فيك يمضيه قلت النفس بفتح الفاء عبارة عن دقيقة من الزمان قدر ما يخرج النفس ويرجع وهو أوسع من الطرفة والطرفة أوسع من اللحظة وهي رمق البصر ورده والقدر هو العلم السابق للأشياء قبل أن تظهر وهو أعلم أوقاتها وأماكنها ومقاديرها وعدد أفرادها وما يعرض لها من الكيفيات وما ينزل بها من الآفات فإذا علمت أيها الأنسان أن أنفاسك قد عمها القدر ولا يصدر منك ولا من غيرك إلا ما سبق به علمه وجرى به قلمه لزمك أن ترضى بكل ما يجري به القضاء فأنفاسك معدودة وطرفاتك ولحظاتك محصورة فإذا انتهى آخر أنفاسك رحلت إلى آخرتك وإذا كانت الأنفاس معدودة فما بالك بالخطوات والخطوات وغير ذلك من التصرفات ولله در القائل:

مشيناها خطى كتبت علينا ... ومن كتبت عليه خطى مشاها

ومن قسمت منيته بأرض ... فليس يموت في أرض سواها

 

وحقيقة الرضى هو تلقي المهالك بوجه ضاحك وحقيقة التسليم استواء النقمة والنعيم بحيث لا يختار في أيهما يقيم وهذا هو مقام أهل الكمال الذين تحققوا بالزوال نفعنا الله بذكرهم وخرطنا في سلكهم أمين ثم ذكر الأدب السابع وهو دوام المراقبة ومواصلة المشاهدة فقال:- فأي علم لعالم يرضى عن نفسه، و أي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه.

 


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل