الثبات - التصوف
العارف بالله الشيخ أحمد الحارون
عندما نأتي على ذكر الشيخ أحمد الحارون، نتذكر الكرامات لكثرة ما نُسب إليه من كرامات، وبلغت مبلغ التواتر المعنوي، وطهور الكرامات علامة صدق من ظهرت عليه في أحواله" كما المعجزات دلالات صدق الأنبياء، فما هي الكرامة؟
الكرامة: هو ظهور أمر خارق للعادة من قبل شخص غير مقارن لدعوة النبوة. فما لا يكون مقروناً بالإيمان، والعمل الصالح يكون استدراجاً، وما يكون مقروناً بدعوى النبوة يكون معجزة.
والمعجزة: هي الأمر الخارق للعادة يجريه الله تعالى على يد مدعي النبوة تصديقاً له في دعواه.
فالمعجزات تختص بالأنبياء، والكرامات تكون للأولياء كما تكون للأنبياء، ولا تكون للأولياء معجزة.
وقد اختلف أهل الحق في الولي، هل يجوز أن يعلم أنه ولي أم لا؟
هناك من قال لا يجوز ذلك، لأنه يسلبه الخوف، ويوجب له الأمن.
وقيل بجوازه، وليس بواجب في جميع الأولياء، ولكن يجوز أن يعلم بعضهم ذلك.
وقد أجاب أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه عن ذلك فقال: "مثل ما حصل للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كمثل زق فيه عسل، ترشح منه قطرة، فتلك القطرة مثل ما لجميع الأولياء، وما في الظَرف مثل ما لنبينا صلى الله عليه وسلم".
والكرامات ظهرت في القرآن الكريم؛ قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً}.
وكذلك في السنة الشريفة: روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة".
والآن بعد أن عرفنا معنى الكرامة مع توثيقها من القرآن الكريم والحديث الشريف، نأتي على السيرة الذاتية للعارف بالله الشيخ أحمد الحارون.
- ولادته ونسبه وكنيته:
أحمد بن محمد بن غنيم الحارون، الحجار.
ولد في منطقة الصالحية، قرية كبيرة ذات أسواق وجامع في سفح جبل قاسيون، في حي أبي جرش، بجانب مسجد الحنابلة، عام 1315ه - 1900م.
ينتسب أبوه لأبي العباس أحمد الرفاعي الحسيني، مؤسس الطريقة الرفاعية.
وتنتسب أمه لبنو شيبة، يرجع نسبهم إلى الصحابي الجليل شيبة بن عثمان بن أبي طلحة القرشي من بني عبد الدار، من أهل مكة.
ووالد الشيخ أحمد الحارون، كان يعمل في تقطير الزهور والورود، وينفق ما يجنيه على أبناءه الأربعة وكريمتيه.
- نشأة الشيخ أحمد:
حفظ القرآن في السابعة، وانتقل والده إلى الرفيق الأعلى في هذا العمر، تعهدته والدته بالرعاية والتربية المميزة التي أهلته ليكون من العارفين بالله.
وجاءت البشارة للأم من المرحوم الشيخ مصطفى الكنّاني المشهود له بالصلاح والتقى، عند معاصريه، بأن نجلها أحمد سيكون له شأن في المستقبل إن شاء الله.
وبدأت الأم في رحلة السعادة التي تديرها بحكمة وإتقان، حيث سجلت ابنها عند الحاجة راجحة رحمها الله، وهذا أول طريق الكُتاب للابن أحمد، ثم انتقل إلى كتاب آخر في سوق الجمعة بإشراف المرحوم الشيخ عبده الأصغر، وبقي ثلاثة أعوام. تفوق على أقرانه، بقوة الحافظة لديه، في التلاوة والحفظ عن ظهر قلب للقرآن الكريم.
إلى جانب هذا التفوق الإيماني، تفوق أحمد حارون على أقرانه في عمله البدني الجسمي الذي مارسه بعد أن تعلم فنه، وهي صناعة قطع الحجارة، ففي الثانية عشر من عمره، بدأ بكسب المال من عرق جبينه، حيث كان يذهب إلى جبل قاسيون ليعمل حجاراً، هذه المهنة علمته الصبر والصبر ثم الصبر، كانت المعادلة الناتجة لهذا العمل التربوي على يد الوالده المربية، حفظ القرآن في الصغر مع عمل للرزق يرافقه الصبر والأدب، أن منَّ الله عليه بالفهم والإدراك والفتوح الإلهي.
ومع مهنة تقطيع الحجارة، عمل في مهنة النحت، مع المتابعة والمحافظة على تلاوة القرآن وأنواع متنوعة من العبادات.
استمر أحمد الحارون على العمل فيما يرضى الله عز وجل، وتميز على أقرانه بتفقد أمراض الظاهر والباطن للإنسان، مع مداواة تلك الأمراض، وجعل رأس تلك الإسقام هو اعتقال القلب وأسره لغير الله عز وجل.
هكذا كانت تربية أحمد الحارون، بدأت بخطوات تربوية صحيحة وقوية المعنى والفهم.
- صور من حياته:
وهكذا بدأ الشيخ أحمد الحارون بشق طريق حياته، محتضناً رضى الله عز وجل في جميع أعماله وأحواله، لا يغيب عن ذهنه رضاه، مما جعله قبلة رفاقه في الجندية.
عندما طُلب إليها سنة 1917م، يؤمهم ويدعوهم إلى الخير والفلاح، وكان يُنشد قصائد الشيخ محي الدين بن عربي، والشيخ أحمد رزّوق المغربي، والشيخ عبد الغني النابلسي.
وكان ممن أبلى بلاءً حسناً في مقاتلة أعداء الدولة العثمانية في فلسطين، وعندما انتهت خدمته العسكرية، عاد للعمل حجاراً، يصنع البحرات والأجران، وفي سنة 1946 تزوج من خديجة بين أبي السعود الحداد، وأخذ في رعاية أسرته أفضل رعاية.
في البيت رعى زوجته، وابنه عبد الفتاح الذي توفي في العقد الثاني من حياته، وكان له ابنة اسمها سلمى، قام على تنشئتها التنشئة الصالحة النقية.
وقد كان موفقاً في أصحابه وزملاءه: المرحوم الشيخ أمين الخربوطلي، والشيخ عبد المحسن التغلبي، والشيخ أمين كفتارو، والشيخ توفيق الأيوبي، والشيخ عبد المحسن الاسطواني، والشيخ إبراهيم الغلاييني.
وكان يتردد على المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني، والسيد محمد جعفر الكتاني، والمرشد محمد الهاشمي، والشيخ أمين سويد، وغيرهم من العلماء أكابر ذلك العصر.
وفي العقد الرابع من عمره اتصل بعلماء آخرين:
محمد شكري الاسطواني، وقاضي دمشق عزيز الخاني، ومفتي سورية عطا الكسم، والمرحوم العارف بالله أمين الزملكاني، والشيخ عبد الله المنجد، والشيخ هاشم الخطيب. وعلماء آخرون من خيرة علماء الشريعة والحقيقة في سورية، أي من خيرة الصوفيين، المشهود لهم بالصلاح والتُقى.
وكان لشيخنا الفاضل أحمد الحارون مكانة كبيرة لدى علماء ذلك العصر، لأنه جعل من الحقيقة نور الشريعة، وانصرف في هذا العمر لدراسة الكتب الدينية الكونية، في خلواته، جلساته العلمية التي يعقدها في داره، أو دار محبيه ومريديه، أمثال الشيخ أبو الخير الميداني، رئيس رابطة العلماء، والهاشمي وغيرهم.
- أهم الكتب التي درسها:
1- الفتوحات المكية / للشيخ ابن عربي.
2- زاد المعاد / ابن القيم الجوزية.
3- الرسالة القشيرية / النيسابوري.
4- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء / أبي نعيم الأصبهاني.
5- إحياء علوم الدين / للغزالي.
6- رياض الصالحين.
وغيرها من الكتب:
تفسير كتاب دياسقوريدوس في الأدوية المفردة، وكتب تشريح، والفلك، وعلم طبقات الأرض، والأدب، والبنات... وغيرها. مصداقاً للحديث الشريف: "ما اتخذ الله من ولي جاهل ولو اتخذه لعلمه". ومصدقاً للحديث القدسي: "كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يُبصر به"
أخذ بالتأليف والجمع في العقد الخامس من عمره:
ألف وكتب وجمع في النواحي التالية: التصوف، التفسير، الأخلاق، العلوم الكونية.
كتب عن مملكة الإنسان، والطب، والتشريح، والكهرباء، الفلك، علم النبات، وعلوم أخرى.
أكثر مؤلفاته أنجزت خلال ست سنوات، بأسلوب ولغة سهلة جذابة، تجذب كل فرد ليفهم حسب ثقافته ومؤهلاته. ولم يكن يسمح لأحد بنشر مؤلفاته، وتميزت كتاباته بالدقة العلمية، وفهم أسرار الشريعة والحقيقة.
- جهاده رحمه الله:
كان يمسك بالقرآن والحديث بيد، وينافح باليد الأخرى ضد الذين يسعون لإضاعة المسلمين عن دعوتهم الواجبة، وأن لهم ديناً واجب اتباعه. بحواس يقظة ولسان واعظ راشد، نزل أحمد حارون إلى ساحة الحياة. مطبقاً لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ}.
وجهاده الثاني كان ضد فرنسا، حيث جاهد بالمال والنفس، فكم من مرة ساهم في منع القوات الفرنسية من عبور جسر تورا، وكان ينتقل بين الغوطة معقل الثوار وبين دمر والفيجة في آن واحد.
ففي الأولى قتال والثانية لوقف الإمداد عن الأعداء.
ولذلك دخل التاريخ من بابه العريض ديناً علماً ثقافة، وعظاً، إرشاداً، تدريساً، جهاداً وقتال، "كما قال عزة حصرية".
- إنفاقه وبره:
لم يتوقف أحمد حارون على جمال وصفه الذي أشرنا إليه فقط، إذ لم ينسى أن المحب لله هو الأكثر إنفاقاً. فكان يستخدم الصدقات كجواز للعبور إلى القلوب، حيث عُرفت داره كملجأ للمحتاجين والفقراء، وكالمستشفى لمعالجة أمراض القلوب.
وكان يتفقد العائلات المستورة وينفق عليها، ولم يكن يملك إلا داره التي ورثها عن والده.
- أقوال في الشيخ:
-شيخ الأزهر الأسبق الشيخ حسن المأمون: "أشعر وكأنني في حضرة الإمام الغزالي"
-العالم الكبير الشيخ سعيد البرهاني: إن الشيخ أحمد لا يجود الزمن بمثله إلا مرة كل مئة عام، سيراً على سُنة النبي العظيم صلى الله عليه وسلم القائل: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها أمر دينها"
-الأستاذ المربي عزة حصرية: "دخل الشيخ أحمد التاريخ من بابه العريض، ديناً وعلماً، وثقافة، ووعظاً، وإرشاداً، وتدريساً، وجهاداً وقتالاً"
- وفاته رحمه الله:
توفي الشيخ أحمد الحارون ليل جمعة في 19 جمادى الأول عام 1382 /16 تشرين الثاني سنة 1962. بكت الشام عليه، وبكاه العالم الإسلامي، وحمله العلماء إلى المقر الأخير الذي وصى أن يدفن فيه، عند الشيخ رسلان الدمشقي، حيث عسكر خالد بن الوليد يوم الفتح.