الثبات - اسلاميات
الواقعية في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
حتى تصبح السيرة الثابتة الكاملة الشاملة صالحةً للتطبيق والهداية، فلابدّ أن تكون سيرةً واقعيةً ممكنة التطبيق في حياة الناس، وهذا ما امتازت به سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم عن سائر السير.
وتتبين واقعية السيرة النبوية من خلال نقطتين:
الأولى: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يكن يأمر بشيء إلا ويفعله، فكان أكثرَ الخلق التزاماً بالتكليفات التي دعا إليها، وأعظمَهم تطبيقاً لها في كل مجالات العبادات والأخلاق والمعاملات، وكان أوضحَ الناس مثالاً، وكان أصدق الناس عملاً بما يدعو إليه {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}.
الثانية: أنه صلي الله عليه وسلم ارتفع بأصحابه إلى تطبيق ما دعا إليه، حتى سما بهم السموَّ الذي لم تعرفه البشرية في تاريخها إلا لماماً.
وكتب السيرة ملأى بالنماذج العظيمة والمواقف الرائعة في ذلك كله، سواء في سيرته صلي الله عليه وسلم أو في سيرة الجيل الذي ربّاه على عينه، فكان كلُّ فرد منهم آيةً من آيات نبوته ودليلاً من أدلة صدقه، بل معجزةً ظاهرةً دالةً على كمال رسالته صلي الله عليه وسلم.
تعال للحبيب صلي الله عليه وسلم، تجد أنه أتى بدين واقعي، لا يكلفنا فوق ما نطيق، وفي هذا الجانب مثلا تجد الآية: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.
ويعلمنا أن العدل يقتضي مقابلة السيئة بعقوبة مثلها، وأن العفو عن المسيء درجة عالية تحتاج عزيمة أمضى وصدراً أوسع، ويدعونا إلى استخدام تلك الدرجة العالية من الإنسانية في موضعها اللائق مع من يستحقها ، وذلك بأن نعفو ونصفح عن المؤمن الذي زلَّ زلةً، وأخطأ خطأً، ولا نعفو ونصفح عن الكافر الذي يحارب دين الله، فيقول تعالى: {وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ الله مَعَ المُتَّقِينَ}، ويقول: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
أي: حينما يكون الكلام مع الكفار الذين يحاربون دين الله، فلا يعقل أن نقول: باركوا لاعنيكم وأحبوا أعداءكم!! وإنما يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، وهذا هو الكلام المنطقي، أننا لا نتخذ عدو الله وليا، يقول سبحانه: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . ويقول: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ}. ويقول {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]. ويقول: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ}.
وهذا هو الكلام المنطقي. أن أعفو عن أخي إذا زل زلة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِم}.
فعندما يخطئ فيّ أخي المسلم، أقول له: سامحك الله، وأقول: إن النبي صلي الله عليه وسلم أُوذي بأكثر من هذا، فأنا أصبر.
أما أن يضربني عدوي، فأقول: أنا صابر وأسامحه، وأتمسك بما يسمونه -زوراً- السلام؛فهذا ليس من المنطق ولا من العقل!!
والمشكلة أن الأمة حين تتنكب طريق رسول الله صلي الله عليه وسلم تجد أن الناس قد قلبوا الآيات، فبدلاً من أن نتمثل قوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، نجد العكس من ذلك، أشداء على المؤمنين رحماء على الكافرين!!، وبدلاً من أن نتمثل قول رب العزة: {أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ}، نجد العكس من ذلك، يقف المسلم أمام الكافر باحترام وأدب وهيبة ويتلطف في الكلام في الوقت الذي يتجبر فيه على إخوانه المؤمنين! فأين المنطق في هذا؟!وقد قال الله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}
لم يكن البشير النذير صلي الله عليه وسلم يضيع حقا للأمة عند عدوها، فبمجرد أن نقض يهود بني قينقاع العهد، وكشفوا سوءة المرأة المسلمة؛ حاربهم الرسولُ صلي الله عليه وسلم مباشرةً وأجلاهم عن المدينة، وأيضاً يهود بني النضير نقضوا العهد وأرادوا قتله صلي الله عليه وسلم، فحاربهم وأجلاهم عن المدينة. كذلك يهود بني قريظة نقضوا العهد وحالفوا الأحزاب على رسول الله صلي الله عليه وسلم، فحاربهم وأجلاهم عن المدينة.
وعندما بدأ اليهود في خيبر يؤلبون القبائل على رسول الله صلي الله عليه وسلم، ويعدون العدة لملاقاته، غزاهم وأخرجهم.
وعندما كانت قريش تكيدُ له و للمسلمين كان صلي الله عليه وسلم يخرج مباشرة لحربهم وقتالهم {وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}. هذا هو المنطق الطبيعي.
عندما يأتي مسلم ويسيء الأدب مع رسول الله صلي الله عليه وسلم، فإنه صلي الله عليه وسلم يقول له: عفوت عنك.. نعم؛ لأن العفو هنا دليل على كرم النفس.
أما العفو عن الأعداء فهو دليلٌ على الذل، ودليلٌ على الهوان؛ ولهذا كان منطقُ الإسلام في كل ما يدعو إليه منطقياً واقعياً يتعامل مع حقائق الأشياء، لا يطلب منك فوق ما تستطيع، ولا يكلفك بمثاليات لا يمكن تطبيقها أبدا.
فالله تعالى كلفنا بتكليفات بإمكاننا أن نفعلها، ونهانا عن أشياء ما أسهل الامتناع عنها، وما نهانا عن شيء إلا وفي تركه مصلحة، وما أمرنا بشيء إلا وفي فعله مصلحة.
تعال إلى سيرة الحبيب صلي الله عليه وسلم، فستجدها تطبيقًا عملياً للمبادئ التي دعا إليها. فعندما قال الله عز وجل: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، فإن النبي صلي الله عليه وسلم طبق العدل حتى مع المخالفين! وقال كلمة الحق حتى على أتباعه من المسلمين، وإذا أردنا مثالاً، نجد القرآن يقول لهصلي الله عليه وسلم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرْ الله إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَلَا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ الله لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}.
فلا يحكم النبي صلي الله عليه وسلم بالهوى ولا يستجيب لمن يريد خداعه عن الحق.وكذلك علم أصحابه تطبيق هذه القيمة؛ حتى نأخذ المثل.
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلي الله عليه وسلم كَانَ يَبْعَثُ عبد الله بن رواحة إِلَى خَيْبَرَ فَيَخْرُصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَهُودِ خَيْبَرَ، قَالَ: فَجَمَعُوا لَهُ حَلْيًا مِنْ حَلْيِ نِسَائِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: هَذَا لَكَ، وَخَفِّفْ عَنَّا، وَتَجَاوَزْ فِي الْقَسْمِ! فَقَالَ عَبْدُ الله بْنُ رَوَاحَةَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ وَالله إِنَّكُمْ لَمِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ الله إِلَيَّ، وَمَا ذَاكَ بِحَاملِي عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ، فَأَمَّا مَا عَرَضْتُمْ مِنْ الرَّشْوَةِ فَإِنَّهَا سُحْتٌ، وَإِنَّا لَا نَأْكُلُهَا. فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ .
فقال سيدنا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه كلمة تدل على أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد ربَّى جيلا نوّر الدنيا وأضاء وجه الحياة، وهذا هو العدل، حتى مع المخالف..
وهكذا كانت سيرته صلي الله عليه وسلم واقعية عملية، طبقها على نفسه، وربى أصحابه على تطبيقها.
أمرنا الإسلام بالاعتدال والواقعية، ولم يأت بمبادئ خيالية لا يستطيع الناس تطبيقها، ولا برهبانية النصارى، التي قال الله عنها: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا}. إنما جاء بدين حق يسهل على الناس تطبيقه، يدعو إلى أخذ الدنيا مع العمل للآخرة، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ}.
بهذا كان الرسول صلي الله عليه وسلم وحده هو القدوة، وهذا معنى قول المصلحين الصالحين. "الرسول قدوتنا"، فلا توجد قدوة تصلح لسائر البشر، عند هذا ولا ذاك، غيره صلي الله عليه وسلم.
فالسيرة التي تصلح للقدوة هي سيرة حبيبك صلي الله عليه وسلم، فأين أنت من التطبيق العملي لهذه السيرة الكريمة؟!!.
هذا ما يجب أن نتداعى إليه، وأن يأمر بعضنا بعضا به. ونسأل الله العظيم كما رزقنا الإيمان به في الدنيا ولم نره، أن يرزقنا يوم القيامة شفاعته، وأن يحشرنا خلفه.
بشارة لمن يتخذ رسول الله قدوة:
هذه بشارة لمن يتبع الحبيب صلي الله عليه وسلم، ولمن يتخذه قدوة، يقول رب العزة في محكم كتابه: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}.
أي أنك يوم القيامة تدعى خلف مثلك الأعلى، فإن كان هو سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم؛ فإنك ستجد نفسك في الصف وراءه، وتدخل من باب أمة محمد صلي الله عليه وسلم، الذي يقول فيه الحبيب المصطفى صلي الله عليه وسلم: "بَابُ أُمَّتِي الَّذِي يَدْخُلُونَ مِنْهُ الْجَنَّةَ عَرْضُهُ مَسِيرَةُ الرَّاكِبِ الْمُجَوِّدِ ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَيُضْغَطُونَ عَلَيْهِ حَتَّى تَكَادُ مَنَاكِبُهُمْ تَزُولُ".
وبشارة أخرى كريمة يخبرنا بها الحبيب المصطفى صلي الله عليه وسلم، عندما جاءه رَجُلٌ إِلَيه صلي الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلي الله عليه وسلم: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ".
وعَنْ أنس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله صلي الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله مَتَى السَّاعَةُ؟ قال: "وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟" قَالَ: حُبَّ الله وَرَسُولِهِ. قَالَ: "فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" .
قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : "فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" .
قَالَ أَنَسٌ: "فَأَنَا أُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ".
فهلموا نجعل رسول الله صلي الله عليه وسلم قدوتنا في كل شيء؛ حتى نُحشر خلفه، ونُدعى وراءه، ونُدعى به يوم القيامة.
بل هلموا بنا ندعو الأمم كلها والناس جميعا للاقتداء به والاهتداء بهديه الكريم، فإن رسول الله صلي الله عليه وسلم جاء للناس قاطبة، وحفظ الله دينه وسيرته التي شملت كل ما يحتاجه كل إنسان في قضايا الإيمان والعبادة والمعاملات والآداب والأخلاق، بصورة واضحة قابلةٍ للتحقيق والتطبيق بلا حرج ولا عنت، في توافقٍ تام وانسجامٍ كاملٍ مع الفطرةً والعقل، مع الإيمان الكامل بكل من سبق من الأنبياء والرسل.
وذلك مما يشهد لعالمية دين الإسلام، وعالمية سيرة رسول الإسلام صلي الله عليه وسلم، ومن ثَمّ فإن سائر الأمم مطالبة بالإيمان به، والاقتداء بسيرته، والاهتداء بهداه.