الثبات - إسلاميات
حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رحمة الرعية
تعد الثورة الفرنسية من أهم المحطات في التاريخ الفرنسي بقضائها على الملكية الفاسدة وفتحها الطريق أمام نهضة فرنسا، ولكن اللافت للنظر النهج العنيف والدموي الذي اختارته هذه الثورة ليس فقط في تصفية رموز الفساد والاستبداد، بل إنَّ المقصلة تحولت إلى لغة الحوار مع المخالفين لوجهة نظر الثورة وتوجهاتها، ويكفي أن نعرف أن مدينة باريس بمفردها فقدت (2.600) من أبنائها على يد الثوار الحاكمين الجدد هذا حالهم ولكن الإسلام شيء آخر.
لقد كان رسول الله يعلم أنَّ الرعية الذين يأتمرون بأمر أحدهم في وضع ضعف معين يتطلب رحمةً ورفقًاً من الراعي لهم والمتولي لشؤونهم، أيًّا كان مستوى هذه الولاية، وما أروع الحديث الجامع الذي فصل فيه مسؤولية كل إنسان تجاه من يعول، فقال: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" .
فالناس كلها راعية من جهة، ومرعية من جهة أخرى، وهو بذلك يوصي الأمة كلها ببعضها البعض.
لكن لا شك أن أخطر الولايات وأهمها هي الولاية العامة التي يرعى فيها رجل أحوال أمة كاملة، إنَّ صواب هذا الرجل أو خطأه سيعود بالنفع أو الضرر على شعوب كثيرة، وقد يستمرُّ النفع أو الضرر في أجيالٍ متعاقبة.
إن الأمر جد خطير، لذلك نجد رسول الله مهتماً جداً بهذه القضية، ويخشى على أمته من أن يتسلط عليها من يظلمها أو يفرط في حقوقها ومن هنا جاءت أحاديث كثيرة، ومواقف عديدة كلها لتنبيه الحكام إلى دورهم الخطير في رحمة الأمة وسعادتها ومن هذه الأحاديث ما جاء ليرغب الحكام في ثواب الله إن كانوا عادلين، أو يرهبهم من عذابه إن ظلموا شعوبهم، يقول رسول الله: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ"، وذكر في أولهم: "إِمَامٌ عَادِلٌ".
ويقول: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ".
ثم يصدر عدة تحذيرات رهيبة لأي والٍ لا يرحم رعيته يقول رسول الله: "مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنْ المُسْلِمِينَ فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ إِلا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ".
ويقول: "مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إِلا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ الْجَنَّةَ".
ويقول رسول الله: "كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ".
ويحذر بشدة أن يتحجب الوالي عن رعيته فيقول: "مَنْ وَلاهُ اللَّهُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ". كل هذا من رحمته بالرعية ثم هو يخاف أن يستأثر والٍ أو حاكم بشيء لنفسه من أموال الناس، أو يرغم الناس أو يغريهم بدفع رشوة له، فيُعلِّم المسلمين في موقف عظيم كيف يجب أن يكون حال الحاكم المسلم، يروي أبو حميد الساعديرضي الله عن: "أن رسول الله اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنْ الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْلتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، قَالَ: "فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ" ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ: "اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، ثَلاثًا".
وهكذا تتعدد الأحاديث والمواقف التي تدفع كلها في النهاية إلى تعظيم مسؤولية الحاكم وترهيبه من ظلم الرعية أو غشهم، وترغيبه في الثواب العظيم إنَّ هو عدل ورفق بالناس وكان يرفض أن يعطي الإمارة أيضاً لمن تشوَّف إليها، خوفاً على الرعية من أن يتسلط عليهم هذا المحب للإمارة المتمسك بها يروي أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ أَنَا وَرَجُلانِ مِنْ قَوْمِي فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَهُ، فَقَالَ: "إِنَّا لا نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَأَلَهُ وَلا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ".
وكان يجتهد في وضع الضوابط التي تضمن استمرارية عملية العدل والرحمة بالرعية، فيَحُضَّ الوالي على استصحاب بطانة الخير التي توضح له الرؤية بصدق، وتأمره بالحق والعدل يقول رسول الله: "مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلاَّ لَهُ بِطَانَتَانِ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ".
وفوق ذلك يأمر الرعية أن يكون لها دور في إصلاح الحاكم ورَدِّه عن ظلمه إذا ظلم؛ حتى تظل سمة الرحمة هي الغالبة على الحكم، وهي الظاهرة في حياة الناس يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، وإني سمعت رسول الله يقول: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ". وكان يقول: "إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ".
وهكذا أوصى النبي الحاكم برحمة رعيته، وأوصى الرعية بالأخذ على يد الحاكم إن ظلم وخالف قواعد العدل والرحمة، وبذلك حافظ على منظومة الرحمة متكاملة شاملة مستمرة إلى يوم القيامة. وجدير بالذكر أن هذه الوصية بالرحمة والعدل والرفق شملت الرعية من غير المسلمين، وفي هذا مواقف كثيرة وأحاديث متعددة، وصدق الله العظيم القائل في حق رسوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.