الثبات - اسلاميات
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
والتكافل الاجتماعي
لم تكن نظرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المجتمع نظرةً قاصرةً على حالاتٍ فرديةٍ تمرُّ بأزماتٍ عارضة أو دائمة؛ بل تفرَّدت النظرة بالشموليَّة حتى أصبح المجتمع في ظلِّها وكأنَّه فردٌ يجب أن يتوافر له حدُّ الكفاية؛ فنلاحظ حرص النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عند تقسيمه فَيْء بني النضير أن يُقدِّم النموذج المثالي في التكافل والإغاثة، وفي تحقيق توازنٍ اقتصاديٍّ بين أفراد المجتمع من مهاجرين وأنصار؛ فقد شاء الله تعالى أن يُجلي بني النضير عن ديارهم نتيجة غدرهم وخيانتهم للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فحاصرهم النبيُّ والمسلمون، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأرادوا الصلح مع المسلمين على أن يأخذوا ما حملته الدواب والإبل إلَّا السلاح فإنَّه للمؤمنين، فأخربوا بيوتهم، وأُجلُوا منها، فكانت هذه الغنيمة خالصةً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال عز وجل: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
فلمَّا غنم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير دعا ثابت بن قيس فقال: "ادْعُ لِي قَوْمَكَ". قال ثابت: الخزرج؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الأَنْصَارَ كُلَّهَا. فدعا له الأوس والخزرج، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إيَّاهم في منازلهم وأموالهم، وأثرتهم على أنفسهم ثم قال: إِنْ أَحْبَبْتُمْ قَسَمْتُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ مِمّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَيّ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ السُّكْنَى فِي مَسَاكِنِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَعْطَيْتَهُمْ وَخَرَجُوا مِنْ دُورِكُم. فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: يا رسول الله؛ بل نقسم بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا. وقالت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله. وقسَّم ما أفاء الله، وأعطى المهاجرين ولم يُعطِ أحداً من الأنصار شيئاً غير أبي دجانة، وسهل بن حنيف لحاجتهما".
وكانت غاية النبيِّ صلى الله عليه وسلم من توزيع الفيء بهذه الطريقة تحقيق العبء المـُلقى على الأنصار، فتكافلهم مع المهاجرين قد بلغ زمناً طويلاً، كما أنَّ إعطاء المهاجرين دور بني النضير سيُحقِّق لهم نوعاً من الاستقرار النفسي وسيشعرون أنَّ الأزمة قد بدأت تنفرج.
كما شهد المسلمون صورةً مُثْلَى للتكافل في غزوة الأحزاب على الرغم ممَّا أصابهم من جوعٍ ونصب؛ فيُروى عن طلحة أنَّه قال: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجُوعَ وَرَفَعْنَا عَنْ بُطُونِنَا عَنْ حَجَرٍ حَجَرٍ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ حَجَرَيْنِ".
والصحابة الذين تربُّوا على الجود والعطاء والتكافل جادوا بكلِّ ما يملكون في سبيل إخوانهم؛ فيروى أنَّ ابنة بشير بن سعد جاءت لأبيها وخالها عبد الله بن رواحة بحفنةٍ من التمر ليتغدَّيا به، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَاتِيهِ. فصبَّته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأهما، ثم أمر بثوبٍ فبُسِطَ له، ثم قال لإنسان عنده: اصْرُخْ فِي أَهْلِ الْخَنْدَقِ أَنْ هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاء، فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنَّه ليسقط من أطراف الثوب".
وامتدَّت روح التكافل بين أبناء المجتمع إلى أبعد من هذا، فلمَّا ولدت السيدة فاطمة الحسن بن علي رضي الله عنه قالت: ألا أعق عن ابني بدم (بكبشين)؟ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا، وَلَكِنِ احْلِقِي رَأْسَهُ وَتَصَدَّقِي بِوَزْنِ شَعْرِهِ مِنْ فِضَّةٍ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالأَوْفَاضِ. وَكَانَ الأَوْفَاضُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مُحْتَاجِينَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي الصُّفَّةِ ففعلَت ذلك".
ولا ريب أنَّ هذا النوع من أنواع التكافل في المجتمع المسلم؛ من التصدُّق على الفقراء والمحتاجين عند قدوم المولود، يحمل المجتمع على الألفة والحب، وحب هذا المولود الجديد الذي كان مولده سبباً من أسباب دخول الفرح عليهم.
المجتمع المسلم ينبغي أن يكون كالجسد الواحد لا يهدأ ولا يرتاح إلا إذا تعافت كل الأعضاء.