أقلام الثبات
هناك من حاول دفع "الدولار" في لبنان إلى "الجنون"، على غرار "الجنون" الذي أصابه في ثمانينيات واوائل تسعينيات القرن الماضي، في مضاربات مقصودة، كانت جديدة على اللبنانيين في ذلك الوقت، سرعان ما تكشف غبارها عن مخطط نجح في الإستيلاء على البلد وأطاح بحكومة الرئيس الراحل عمر كرامي. وتبين أن رئيس الجمهورية في ذلك الوقت الياس الهراوي كان متورطاً مع حاكم مصرف لبنان ميشال الخوري، في تشجيع المضاربة على الليرة وفي تشجيع التظاهرات، للإتيان برفيق الحريري رئيساً للحكومة، ضمن مناخ دولي وإقليمي مؤات.
في ذلك الوقت، في 6 أيار 1992، شهدت شوارع بيروت تظاهرات ضد التضخم وتدني سعر صرف الليرة ، فاستقالت حكومة عمر كرامي في اليوم ذاته، وحلّت محلها حكومة انجزت الانتخابات في حزيران 1992. ليدخل الحريري إثرها إلى مجلس النواب. ومن ثم يكلف بترؤس الحكومة. ولمن لا يذكر، فعام 1992 حينما كان ميشال الخوري حاكماً لمصرف لبنان، شهد لبنان أكبر انهيار لسعر صرف الليرة من 880 ل.ل. للدولار، في شباط 1992، الى 2850 ل.ل. في أيلول من ذلك العام.
وفي ايلول الماضي هذا العام، جرى اللعب بالدولار فتحرك عن سعره الرسمي الثابت منذ خمسة وعشرين عاماً وهو 1507 ليرات للدولار الواحد، ليقارب 1680 ليرة. ولعله كان يراد لآخر يوم أحد من الشهر الماضي أن يكون مماثلاً ليوم إسقاط حكومة كرامي. وهناك من حرك "ربيعاً عربياً" في لبنان، لأهداف تتخطى وجع اللبنانيين من الأزمة الإقتصادية ومن فساد الطبقة السياسية المتحكمة بالبلاد والعباد.
بالشكل، جرى اللعب بالدولار في غياب رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي القى خطاباً في الأمم المتحدة، لم يعجب الأميركيين والسعوديين في الخارج؛ ولا أتباع الأميركيين والسعوديين في الداخل اللبناني. فجرى إبتزاز عون بالشارع في محاولة مكشوفة لتحميله مسؤولية سرقات الطبقة السياسية طوال ثلاثة عقود مضت.
وعندما عاد عون وضع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أمام مسؤولياته، التي تجاهلها لمدة شهر كامل، فكان أن أصدر سلامة تعميماً تكفل باعادة الهدوء إلى الدولار في السوق اللبناني، بما يعني أن ما جرى كان مفتعلاً، لأن لبنان لديه وفر من العملة الصعبة (الدولار) وهو متوافر في المصارف بمئات المليارات؛ وفي مصرف لبنان بعشرات
المليارات. لكن هناك من افتعل أزمة نقص السيولة. فكيف تحدث مثل هذه الأزمة ولمدة شهر كامل، ثم تبدأ بالتراجع إثر تعميم سلامة. فهل للحاكم سلامة يد في ما جرى؟
في المضمون، البعض في لبنان يرى أن اللعب بالدولار كان عملاً خارجياً بأدوات داخلية، هدفه الضغط على العهد والحكومة، لإلزامهما التجاوب مع المطالب الأميركية والسعودية من لبنان. وهي المطالب ذاتها التي رافقت اعتقال سعد الحريري في الرياض، أي قلب الطاولة على حزب الله وإعلان حرب داخلية عليه، خدمة للعدو "الإسرائيلي" بالدرجة الأولى. ومماشاة للسياسات الأميركية المعروفة، التي تنفذها السعودية بتشكيل محور سعودي-"اسرائيلي" يعادي كل من يرفض ويقف في وجه هيمنة الكيان الصهيوني على المنطقة العربية، خصوصاً أن الذي جرى حدث بعد زيارة موفد الخزانة الأميركية مارشال بيلينغسلي لبنان.
والبعض الآخر، يرى أن الضغط بواسطة الدولار، هدفه إشغال اللبنانيين وتهديدهم بقيمة عملتهم الوطنية وبالتالي بلقمة عيشهم، ليرضخوا أمام الضرائب المجحفة التي تنوي بعض الجهات الحكومية اللبنانية التقدم بها في ميزانية 2020 المزمع إنجازها قريباً. وكذلك، الخضوع للإملاءات السياسية والضرائبية التي يصر رعاة مؤتمر "سيدر" على فرضها على لبنان، كشرط لتسييل القروض المقررة للبنان في ذلك المؤتمر.
واللافت في هذه الأحداث، أنها تأتي وسط أجواء عن إقتراحات تشمل إجراءات إقتصادية وضرائبية ومالية، سوف يتقدم بها رئيس الحكومة سعد الحريري، وصفتها جهات عدة بأنها مشروع بيع بالكامل للبنان. فالحريري الذي يواصل سياسة الحريرية السياسية التي أوقعت وورطت لبنان في منحدر نهج الإستدانة، يوغل في اقتراحاته الجديدة في سياسة التورط في الديون. وكأن لبنان تنقصه ديون جديدة وهو الذي بات عاجزاً عن تأمين فوائد الديون التي وضعت على عاتقه خلال القرون الثلاثة الماضية.
الحريري، إضافة إلى الضرائب ورفع التعرفات التي يسعى إليها في الكهرباء والقيمة المضافة والرواتب والمحسومات التقاعدية وغيرها، يطرح اللجوء إلى المزيد من الديون الخارجية، عبر «تأمين خطوط ائتمان بالعملة الأجنبية لتمويل عمليات التجارة الخارجية»، أي الاستدانة من الخارج لتمويل الاستيراد. وعبر «تأمين ودائع طويلة الأجل في مصرف لبنان والاكتتاب بسندات الخزينة بالعملات الأجنبية»، أي الاستدانة من الخارج أيضاً، لإعادة تكوين موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، وتمكينه من التدخّل لتثبيت سعر الصرف وتمويل عجز ميزان المدفوعات الخارجية.
وبحجة الحصول على المزيد من الدولارات، تطرح خطة الحريري العمل على جذب الاستثمارات الأجنبية، عبر مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتحرير القطاع العام وإشراك القطاع الخاص في الملكية العامة والإدارة، عبر البدء بخصخصة شركتي الخلوي وليبان تيليكوم وشركة طيران الشرق الأوسط وشركة الشرق الأوسط لخدمة المطارات وكازينو لبنان وإدارة حصر التبغ والتنباك ومرفأ بيروت وجميع المرافئ الأخرى، إضافة إلى بيع العقارات التي تملكها الدولة!
بمعنى أوضح، يقترح الحريري للخروج من الأزمة القائمة، أن تبيع الدولة أصولها العامة الى المستثمرين الأجانب وتزيد مديونيّتها الخارجية، وتُرهق المواطنين بالضرائب على استهلاكهم وتسلب الموظفين والمتقاعدين جزءاً من مكاسبهم وتُلقي عبء الكهرباء كاملاً على ميزانيات العائلات اللبنانية. كل ذلك في سبيل الحصول على دفعة إضافية من الدولارات، لشراء المزيد من الوقت وجني المزيد من الأرباح، من قبل الذين ربحوا كل الوقت وكل المال حتى الآن.