الثبات - اسلاميات
من دروس الهجرة ... "التضحية"
التاريخ فيه عبرة كبيرة للإنسان، فكيف إذا كان التاريخ سيرة خير البشر ﷺ وكيف إذا الحدث الذي نريد أخذ الدروس منه قد جعله المسلمون لأهميته تأريخاً لدولتهم، إنها الهجرة من مكة إلى المدينة.
ومن أهم دروس الهجرة التضحية، لقد ضحى النبي ﷺ بوطنه وماله لأجل دينه ودعوته، خرج من مكة ونظر إليها حزيناً باكياً وخاطبها قائلاً: "ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك".
ترك البيت والمال والعشيرة إلى حيث لا نسب إلا الدين ولا صلة إلا صلة الدعوة، ضحى هو وضحى أصحابه الكرام، منهم من ترك أهله كأصحاب الصفة الذين كانوا يستوطنون المسجد، ومنهم من ضحى بداره ومنهم من ضحى بماله، كصهيبٍ الرومي الذي ضحى بماله كله ليفوز باللحاق برسول الله ﷺ، فحينما أراد صهيب الهجرة من مكة إلى المدينة تبعته قريش لتمنعه، فنزل عن راحلته ثم قال: يا معشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وأيم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فافعلوا ما شئتم، فإن شئتم دللتكم على مالي وخليتم سبيلي، فقالوا: نعم، ففعل.
ووصل صهيب إلى المدينة وكان خبره مع قريش قد وصل إلى المدينة قبل وصوله، فقد جاء أمين الوحي جبريل عليه السلام وأخبر النبي ﷺ بما فعل صهيب مع قريش وتخليه عن ثروته، ونزل فيه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}.
ولما دخل صهيب على النبي ﷺ هشَّ له وبشَّ وقال: "رَبحَ البيعُ يا أبا يحيى… رَبحَ البيعُ"، وكررها ثلاثاً، فعلت الفرحة وجه صهيب. ضحى النبي ﷺ وضحى صهيب وضحى الصحابة رضوان الله عليهم، ضحوا فوصل إلينا الإسلام، فبماذا ضحينا نحن؟
-وهذه أمُّ سلمة - وهي أوَّل امرأة مهاجِرة في الإسلام - تقول: "لَمَّا أجْمَع أبو سلمة الخروج إلى المدينة، رَحَّل بعيراً له، وحَملَنِي وحَمل معي ابنَه سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلمَّا رآه رجالُ بني المغيرة بن مَخْزوم، قاموا إليه فقالوا: هذه نفْسُك غلبْتَنا عليها، أرأيتَ صاحبتنا هذه، علامَ نترُكك تسير بها في البلاد؟ فأَخذوني، وغَضِبَتْ عند ذلك بنو عبدالأسد، وأهوَوْا إلى سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها؛ إذْ نزعتُموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابنِي سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبدالأسد، وحبسَنِي بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة حتَّى لحق بالمدينة، ففُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني"، فمكثَتْ سنة كاملة تبكي، حتَّى أشفقوا من حالِها، فخلَّوْا سبيلها، ورَدُّوا عليها ابنها، فجمع الله شَمْلَها بزوجها في المدينة.
إنَّ انتصار الدعوة رهين بتقديم وبذل الغالي والنفيس؛ فهذا سيدنا علي رضي الله عنه ينام مكان رسول الله ﷺوهو موقن أن ذلك يعني تعريض حياته للخطر. وهذا سيدنا أبو بكر رضي الله عنه يهاجر مع رسول الله ويأخذ كل ماله معه لخدمة الدعوة ويترك أهله دون مال، همه الوحيد أن يكون في معية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرحلة التاريخية. بل كل هؤلاء المهاجرين الذين هاجروا إلى المدينة تاركين وراءهم أهاليهم وأموالهم في سبيل الله، بل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يبقى آخر المهاجرين إلى المدينة رغم كل ما قد يتعرض له من أذى المشركين خصوصاً أنَّ صحابته قد هاجروا.
وهذا الدرس المستفاد ما أحوج الأمة اليوم إليه في زمن الانبطاح والاستسلام وزمن الوهن، الذي أصبح فيه الكثيرون مطبعين مع أعداء الإسلام مستكينين للظلم والفساد، بل ويبذلون له خيرات بلادنا ويدفعون له الأموال ويعلنون له الطاعة.