أقلام الثبات
لم يتأخر ردّ المقاومة على العدوان الاسرائيلي على لبنان، فبعد أن مرّ اسبوع من القلق الاسرائيلي والاستنفار على الحدود وإغلاق الأجواء أمام حركة الطيران، وفرض حظر التجوال الذي كلّف الاسرائيليين الكثير... جاء الردّ بتفجير آلية عسكرية في مدينة صلحا اللبنانية (من القرى السبع) متزامنًا مع اطلاق ذكرى الاحتفال بإعلان "دولة لبنان الكبير"، حيث كانت القرى السبع جزءًا منه قبل أن يتنازل عنها الاستعمار الفرنسي لصالح البريطانيين الذين كانوا يحتلون فلسطين آنذاك.
إنه لبنان فقط، الذي شكّل - وما يزال - استثناءً في الصراع العربي مع "إسرائيل"؛ فمع استمرار المقاومة في الجنوب بعد توقيع اتفاق الطائف، وقدرة اللبنانيين على إجبار العدو على الانسحاب من أراضٍ عربية بالقوة ودون قيد أو شرط ومن دون توقيع اتفاقية سلام أو استسلام، ودون تنازلات، كانت "إسرائيل" دائمًا تضع نصب عينيها حاجتها لإخضاع اللبنانيين وإذلالهم عبر الحديد والنار، إلى أن كانت حرب تموز.
تحولت حرب تموز الى استثناء لبناني ثانٍ، فلقد فرض اللبنانيون بدمائهم "معادلة الردع" المتقابل لأول مرة في تاريخ الصراع. أما الردع فهو يعني "محاولة طرف منع الطرف الآخر من القيام بعمل يرى فيه ضررًا له، أو على الأقل منعه من التفكير بالقيام بما يهدد له مصالحه أو مكانته"، ويرتكز على عنصرين حاسمين: الحرب النفسية، أي منع العدو من مجرد التفكير بالفعل، والثاني عسكري، وهو يرتكز على امتلاك القدرة على الردّ بالمثل، أو الانتقام وإيقاع الضرر.
وإذا أردنا أن نقيّم تطور مراحل معادلة الردع اللبنانية مع "اسرائيل" فيمكن أن نوجزها بما يلي:
أولاً - مرحلة طويلة من "التفوق الاسرائيلي"، امتدت الى عقود طويلة، كانت تملك خلالها "اسرائيل" قراري الحرب والسلم. فكانت تتنظر ذريعة أو تخترعها، للدخول الى لبنان واجتياح أراضيه، وبشكل نزهة.
في تلك المرحلة، لعب العنصر النفسي دورًا حاسمًا في معادلة الصراع مع العدو، إذ استطاع أن تخلق في ذهن العرب أن كلفة الاستسلام تبقى أخفّ كلفة من الحرب، لذا حققت "اسرائيل" ما تريد بأقل كلفة عسكرية ممكنة، الى أن أتت حرب تموز عام 2006.
ثانيًا: أدخلت حرب تموز لبنان والمنطقة في مرحلة جديدة، من "التوازن الردعي"مع العدو.أثبت انتصار لبنان في تلك الحرب ومنع اسرائيل من تحقيق أهدافها، وتكبدّها الخسائر المعنوية والعسكرية (بحسب تقرير فينوغراد) الى تبدّل في موازين القوى على الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة.
لأول مرة في تاريح الصراع تفقد اسرائيل أحد قراري "الحرب - النزهة"، فقد استمر قرار الدخول في الحرب في يدها، لكن قرار الخروج منها لم يعد بيدها بالتأكيد.
بالمقابل، تحققت معادلة الردع بعنصريها النفسي والعسكري، فالقلق النفسي من الحرب لم يعد يسري على اللبنانيين وحدهم بل امتد الى السكان داخل "الكيان الاسرائيلي". وفقد الاسرائيليون القدرة على استخدام وسيلة "الحرب النظيفة"، أي التهديد بالحرب وتحقيق أهدافها حتى من دون خوضها عسكريًا. ولأول مرة في تاريخها، باتت اسرائيل تتمنى الحرب وتخشاها في نفس الوقت.
ثالثًا- منذ حرب تموز ولغاية اليوم وخلال عقد ونيّف من الزمن، عمل الطرفان اللبناني والاسرائيلي على دراسة نتائج الحرب والاستفادة من عِبرها...
خلال هذه الفترة، لعب حزب الله على العامل النفسي لدى الاسرائيليين، فزرع الخوف في نفوس المستوطنين، فبات الاسرائيلي يخاف من "حفيف الشجر، وضربات المعاول..."، وظهر على التفزيونات الاسرائيلية تقارير تفيد بأن المستوطنين قرب لبنان لا ينامون الليل وهم يتخيلون خروج المقاومة من الانفاق الى داخل بيوتهم.
أما العامل العسكري، فقد تطور لصالح المقاومة، بحيث بات الاسرائيليون يعتدون على المقاومة ويهرعون للدول الكبرى للتهدئة وردع اللبنانيين عن الردّ. ولأول مرة، بات بإمكان المقاومة التهديد بـ"أخذ الحرب الى أرض العدو"، والتأكيد على القدرة على ربحها أيضًا.
أما اليوم، وبعد ردّ المقاومة، يمكن القول أن لا أحد معني بالتصعيد، ولن يكون هناك حرب واسعة... ويبقى التساؤل: كيف ستؤثر هذه المغامرة والرد عليها على مستقبل نتنياهو: فإن ردّ بتصعيد عسكري كبير، ستكلّفه الحرب الكثير على الصعيد العسكري والسياسي والبشري والاقتصادي وقد تكلّفه مستقبله السياسي، وإن لم يرد فسيقال في اسرائيل انه ضعيف، لكن يبقى مصير نجاحه في الانتخابات مقبولاً ( قد يربح وقد يخسر)... لذا لن يرد.