شيخُ الشُّيوخ .. أبي مَديَن الغَوثْ بين ساحات العشق الإلهي و الجِهادِ المَقدِسِي

الثلاثاء 02 نيسان , 2019 02:45 توقيت بيروت تصوّف

الثبات ـ تصوف

مِن نَفَحَاتِ الجُودِ الإِلهِي، فاضَت أنوَارُ الحَضرةِ القُدسِيَّة على عَبِيِد الاختِصَاصِ مِنَ الأولياءِ الخَواص أهلِ الاتِصَالِ والكَمَال،فَسَبَحوا في أفلاكِ الوِلايةِ الحَقَّانية، وتهيأت قُلُوبُهُم لِتَلقي الأسرارِ الإِلهية، والتقت أنوارُ الحَضرة الرَّبانية بِأنوارِ عُبُودِيَّةِ القَلبِ وهو سَاجِدٌ لِمَولاهُ سُجُودَ الأبدِ على بِساطِ الخُصوصِية، فاندَرَجَ نُورُ العُبُودِيَّةِ في نُورِ الرُّبُوبِية وصَارَ العَبدُ صُوفِيّاً رَبَّانيا .

تلك نُعُوتُ نُدمَانِ حَضرة الرحمن، الذين استنارت بهم الأكوان، وسَرَتْ بركاتُهم عَبْرَ تتابُعِ الأزمان، مِنْ عُيُونِ أُولئِكَ السَّادة، الذين سَبَقَتْ لَهُم مِن الله الحُسنى وزيادة: قُطْبُ الأقطابِ المُلقَّبِ بِشَيْخِ الشُيُوخ، سَيِّدي شُعَيب ابن الحُسين الأنصاري الأندلسي  الشَّهير بـ (أَبي مَدْيَن الغَوث) رضي الله عنه وقَدَّسَ سِره، وهو الشَّيخُ الذي تَتَلمذَ على يَدَيْهِ سُلْطانُ العارِفينَ سَيِّدي مُحيي الدِّين ابن عَرَبي الحاتمي الطائي.

ولادته ونشأته :

أصلُهُ من اشبيلية وُلِدَ على مقربة من شمالها بحصن (قنطنيانة) في العقد الثاني من القرن السادس الهجري، نشأ متدرجا في مدارج الفتوح الرباني، وأحاطت به منذ البداية عناصر الصقل الروحي، بعد وفاة أهله شَبَّ يتيماً من أسرة فقيرة كلُّ ما تملكه من تراث هو العلم والتدين.

حياته العملية :

اتسمت حياة سيدي أبو مدين الغوث بالبساطة في أيام الصبا والشباب، حيث كان يرعى الغنم، ويعمل مع العمال، وكان يخدم في السفينة مع الخدم، وكان أجيراً للصيادين لكسب قوت حياته، حتى أنه انخرط في الجندية، ومع مرور الوقت أحسَّ بأن هذه الحرف تمنعه عن تعلم العلم واكتساب المعرفة وأداء الفرائض والعبادات، والتقرب من الله على الوجه الأكمل، فقرر الفرار من الخَلق إلى الخالِق، يقول: فقويت عزيمتي على الفرار لأتعلم القراءة والصلاة، ثم ارتحلَ إلى المغرب ليستقرَّ في مدينة (فاس) موئِل العلم والولاية .

ويَحْكي لنا سيدي أبو مدين قصة التقائه بشيخه الذي بدأ عنده طريق التصوف والرياضة الروحية (أبي يعزى المغربي) فيقول : (سَمِعتُ الناسَ يَتَكلَّمونَ عن كراماتِ أبي يعزى، فذهبت إليه في جماعة لزيارته، فلما وصلنا إلى جبال مرجان دخلنا على أبي يعزى، فأقبَلَ الشيخ على القوم دوني، ولما حضر الطعام منعني من الأكل، وهكذا أخذ يمنعني ثلاثة أيام، حتى أجهدني الجوع وفقدت بصري، ومن الغد استدعاني وقال لي اقترب يا أندلسي، فدنوت منه، فمسح بيده على عيني فأبصرت، ومسح على صدري وقال هذا سيكون له شأن عظيم) .

وبدأ التحول الحاسم وأخذ الإمام أبو يعزى بناصية سيدي أبي مدين بعد أن عَرَفَ قيمة جوهره ورأى نورانية فطرته وشفافية قلبه، فأخذ بيده إلى الفتح الأكبر وطريق السعادة، فأمره بالجهاد الروحي الذي يُقشِعُ عنه الحُجُبَ ويُوصِله إلى الحقيقة .. صيام وقيام وصمت وعزلة، جوع وسهر وذكر وفكر، فَأَخَذَتْ تتفتح له مغاليق الأسرار التي أشار إليها الإمام علي بقوله (مَنْ عَرَفَ نََفسهُ، عَرَف ربَّه)، ولا غَرَابَة بأحوالِ أبي مدين فهو يسير على خطى الحبيب الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه الشريفتان، ويربط الحجر على بطنه من شدة الجوع، بينما عُرِضَتْ له الجبال أن تكون ذهباً فأبى، إلى أن وَصَل شيخنا أبي مدين إلىمعرفة الله وثمرة الجهاد الروحي، حتى كان يقول :

مَنْ ذاقَ طَعْمَ شراب القومِ يَدرِيهِ        ولَوْ دَرَاهُ غَدا بالرُّوحِ يَشرِيهِ

وبعدها ارتحل سيدي أبي مدين إلى بلد الله الحرام مكة المكرمة حيث التقى فيها بالقطب الكبير سيدي عبد القادر الجيلاني قدس الله سره، ولَبِسَ عَنهُ الخُرقَةَ الصوفية وتَقَلَّدَ الطريقة القادرية، إلى أن جَمَعَ رِقَة الطَّبع مع شفافية الروح، وتجاوب الشعر الصوفي رقراقاً على شفتيه في إيقاع عذب .

إلى القدس.. الشيخ يقود المغاربة للجهاد مع صلاح الدين

استمرّ الاحتلال الصليبي للقدس عشرات السنين، وسط تمزقٍ سياسي شَهِدتهُ بلادُ الشَّام، أمّا في بلاد المغرب فقد استقبلت أخبار الاحتلال الصليبي للقدس عن طريق قوافل الحجيج، بِحُكمِ أنَّ القدس كانت مزاراً للحجيج والعلماء المغاربة في رحلتهم إلى الحج، إلى أن بدأت حملة صلاح الدين الأيوبي لتحرير بيت المقدس.

معركة حطين ... في الوقت الذي كانت فيه القدس تحت حكم الصَّليبيين، كان أبو مدين يبثُّ في مُحِبِّيهِ وتَلامِيذِه المغاربة رُوحَ الجِهاد في سبيل تحرير بيت المقدس، وأثناء عودته من الحج مع الوفد المغاربي، انخرط أبو مدين مع تلاميذه في جيش صلاح الدين الأيوبي في معركة حطّين الشهيرة التي انتصر فيها جيش صلاح الدين، وفُتِحت من خلالها مدينة القدس، وكان للمغاربة دورٌ مهم في حيثياتها، و فَقَدَ أبو مدين الغوث ذراعه في تلك المعركة.

وعرفانًا لجهاد أبي مَدين والمغاربة الذين معه ومشاركتهم في تحرير القدس من قبضة الصليبيين، أوقَفَ ابن صلاح الدين الأيوبي وقفيةً امتدت من باب المغاربة حتى باب السلسلة، وأُوقِفَ خصيصاً مزارع وبيوت وأملاك عديدة في قرية عين كارم لأبي مدين وجنده، ولا تزال صورة الوقفية محفوظة في سجلات المحكمة الشرعية في بيت المقدس، كما أوقف أبو مدين زاوية صوفية جعلها سكنًا للواردين من المغاربة سمّيت بزاوية سيدي أبي مدين الغوث، وجاء في وثيقة الوقف: (أوقفها بأموالها ومياهها وآبارها وسواقيها وسهلها ووعرها ومبانيها وقفًا لله يصرف للسابلة من المغاربة المارِّين والمنقطعين للعِلم والجهاد المرابِطين على وصية صلاح الدين الأيوبي) .

حائط البراق في القدس .. دوّنت وثيقة أوقاف أبي مدين لأول مرة سنة 666هـ الموافق لـ1267م، وأعيد تدوينها في عام 1004هـ الموافق لـ1595م، وبقيت هذه الأوقاف صامدة لأكثر من ثمانية قرون قبل أن يسيطر عليها الاحتلال الإسرائيلي سنة 1948 ويستولي عليها بالكامل. وفي حوارٍ صحافي مع جريدة الأهرام المصرية كشف عبد اللطيف أبو مدين -أحد أحفاد أبي مدين الغوث- عن رفع عائلة أبي مدين دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية للمطالبة بحقوقهم التاريخية في هذه الوقفية.

وفي العودة إلى حياته العلمية ... نَذكُرُ أنَّ سيدي أبا مدين تَثَقَّفَ كأَحسنِ ما يكونُ المُثَقَّف مِنَ المصادِر الأصلية: القرآن الكريم، والسنن، الإحياء، والرعاية، والرسالة القشيرية، وكان يُصاحِبُ في دراسته القِمَمِ أمثالِ الحارثِ بن أسد المحاسبي، وحجة الإسلام الغزالي، والإمام القشيري وغيرهم ...إلى أن حَظِيَ أبو مدين بمكانة واسعة في نفوس كبار المُتَصَوِّفة، و دَرَّسَ الفِقه أيضاً وله فيه فتاوى نفيسة، ودرَّس التفسيرَ وامتزجَ قلبه بنور القرآن فاجتمع له العلم والعبادة، وكان الشخصية الإسلامية المتكاملة متفنناً بعلوم الإسلام المختلفة نقلاً وعقلاً .

وأصبح يقصده الناس و يراسلونه من أطراف الأرض للاستفتاء فَيُفتِيهم، وكانت له مواقف ومخاطبات صوفية على شاكلة مواقف أبي يزيد البَسطامي والنِّفَّري ومخاطباتهما الصوفية، كما أن ابن الفارض تَأَثَّرَ بِشِعْرِهِ، وديوانُه مَشهورٌ عِند أهلِ التصوف، وقصائِدُه يُرَدِّدُها جَميعُ المُرِيْدِينَ والسَّالِكين في حَلقاتِ الذِّكرِ إلى يومِنَا هذا، ومِنْ أَشهَرِها :

    مَا لَذّةُ العَيشِ إلاّ صُحبَةُ الفُقَرا             هُم السّلاَطِينُ والسَّادَاتُ والأُمَرا

 فَاصْحَبْهُمُ وتأدَّبْ في مَجَالِسِهِم           وخلِّ حَظَّكَ مَهمَا قَدّمُوكَ وَرَا

     واستَغنِم الوقتَ واحضُر دائِمًا معَهُم      واعلَمْ بأنّ الرِّضا يختَصُّ مَن حَضَرَا

أي ما لذّةُ عيشِ السّالِك في طريقِ مَولاه إلا صُحبة الفقراء، والفقيرُ في اصطلاح الصوفية هوَ المتجَرِّدُ عن العَلائِقِ المُعرِضُ عن العَوائِق، ويروي صاحب شذرات الذهب هذه الأبيات من شعر أبي مدين :

يَامَنْ عَلَا فَرأى مافي الغُيُوبِ ومَا        تحت الثَّرى وظَلَامُ الليل مُنْسَدِلُ
أنتَ الغِيَاثُ لِمَن ضاقَتْ مَذَاهِبُهُ           أنتَ الدَّليْلُ لِمَنْ حَارَتْ بِهِ الحِيَلُ
إنَّــــا قَصدنــاكَ والآمـــالُ واثِقَـــةٌ       والكُلُّ يدعُوكَ مَلهوفٌ ومُبتَهِلُ
فإنْ عَفَوْتَ فَذُو فَضْلٍ وذُو كَرَم           وإنْ سَطَوْتَ فأنت الحاكِمُ العَدلُ

ويَروي الإمامُ الشَّعْراني أنَّ أبا مدين كان يقول : (الحُضورُ مع الله جنة، والغَيْبَةُ عنه نار، والقربُ مِنهُ لَذَّة، والبُعدُ عنهُ حَسْرَة، والأُنسُ بِهِ حَياة، والاستِيحَاشُ مِنهُ مَوت ) وَحَدَّدَ أبو مدين معالِمَ طرِيقِ القُربِ من الله بقوله‏: (من اشتَغَلَ بِطلَبِ الدُّنيا ابتُلِىَ فيها بالذُلِّ)‏ وحذّر من المَيْلِ إلى غَيرِ الله بقوله‏:‏ (إيَّاكَ أن تَميلَ إلى غيرِ الله فَيَسْلِبَُكَ لَذَّةَ مُنَاجاتِه) ويُعَّبِّرُ عن ذلك بقوله في دِيوانِه :

    اللهَ قُلْ وَذَرِ الوُجُودَ وما حـَـــــوَى           إِنْ كُنْتَ مُرتَاداً بُلُوغَ كَمـــــــــــالِ
فالكُلُّ دُونَ الله إِنْ حَقَّقتَــــــــــــــــهُ           عَدَمٌ على التَّفصِيلِ والإِجمَـــــالِ

وقال في الحُضُورِ مخاطبا اللهَ تعالى مُعبراً عن العشق الإلهي في رموز صوفية ومعاني وُجدانِية : 

تَذلَّلتُ في البُلدانِ حين سَـبَيتَني       وبِـتُّ بِــأوجــاعِ الـهـوى أتـــقـلَّــبُ

فَلو كان لي قَلبَانِ عِشـتُ بِواحدٍ      وأتــرُكُ قَـلـبَـاً فـي هـَـــواكَ يُــعَـذَّبُ

     ولـكـنَّ لِـيْ قلباً تـَمَـلـَّكَـهُ الـهَـوى       فلا العَيشُ يَهنَى لِيْ ولا المَوتُ أقْربُ

   كَعُصفُورَةٍ في كَـفِّ طِفْلٍ يَضُـمُّها    تَذُوقُ سِيَاقَ الـمَـوتِ والطِّفلُ يلعَـبُ

فلا الطِّفلُ ذُو عَقْلٍ يَحِـنُّ لِما بِهـا      ولا الطَّيرُ ذُو رِيــشٍ يَطيرُ فَيذهـبُ

سُمِّـيتُ بالمَجنونِ من ألَمِ الهَوى       وصَــارَت بِـيَ الأمـثــــالُ تُــضْرَبُ

   فَيَا مَعْشَرَ العُشَّاقِ مُوتُوا صَبَابَةً     كَمَا مَاتَ بِالـهِـجرانِ قَيــسُ المُعَذَّبُ

وفي تلمسان، مَرِضَ الشيخ مَرَضاً شديداً، حتى وافته المنية في وادي يسر سنة 594 هـ، وحُمِلَ الجثمان إلى قرية العُبَّاد مدفن الأولياء، وكانت جَنَازَتُهُ يوماً مشهوداً، خَرَجَ فيها أهلُ تِلمسانَ عن بَكرةِ أبيهم، تقديراً منهم للولّي الكبير، ومنذ ذلك الحين، صارت تلمسان مدينة أبي مدين، يُعرَفُ بِِها وتُعرفُ بِه.

وقِيل إنَّ أبا مدين ردَّدَ قُبَيلَ وَفاتِهِ: لا بَأس مِنَ النَّومِ في هذا المكان، ثم كانت الإغماضةُ الأخيرة، وقال أبو علي الصواف: لَمَّا احتُضِرَ الشيخ أبو مدين استَحَيَيْتُ أن أقول له: أوصِنِي، فقلت له: هذا فُلانٌ فأوصِه، فقال: سبحان الله، وهل كان عُمري كلَّهُ معكم إلا وصية؟ وأيُّ وصية أبلغُ مِنَ مُشاهدةِ الحال؟ وقال الصواف: سَمِعُتُهُ عِندَ النَّزع الأخير قال: الله الله الله، الله الحق، الله الحي، حتى رقَّ صَوته، وصَمتَ إلى الأبد .

رحمك الله سيدي أبا مدين ورضيَ عنَّا بجاهك وجعلنا على طريقك وأثرك

 


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل