الثبات - التصوف
الشيخ محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى هو أبو بكر، (وقيل: أبو عبد الله) محمد بن عليٍّ الملقَّب: بمحيي الدين، وبالشيخ الأكبر. أندلسي المولد والنشأة، عربي الأصل ينتسب إلى حاتم الطائي من ولده عبد الله بن حاتم، وليس من الصحابي عَدي بن حاتم على ما ذكره ابن قتيبة في المعارف والمقَّري في نفح الطيب. اتم الطائي من ولده عبد الله بن حاتم، وليس من الصحابي عَدي بن حاتم على ما ذكره ابن قتيبة في المعارف والمقَّري في نفح الطيب.
ويقع ضريحه رحمه الله في شمالي مدينة دمشق، على سفح جبل قاسيون، والقاصد يمكن أن يرى المسجد الذي دفن فيه (مسجد الشيخ محي الدين) من ساحة عبد الرحمن الشهبندر.
أولاً: تتجه إليه أصابع الاتهام؛ لأنه صوفي، والصوفي، هو من اختص في التصوف، والتصوف اختصاص حمله رجال كبار في التاريخ الإسلامي كالإمام أبي حامد الغزالي، و الشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ أحمد الرفاعي، ومِن قبلِهما الإمام أبو القاسم الجنيد البغدادي رحمهم الله جميعاً، ولا خلاف في التاريخ الإسلامي أن هؤلاء كانوا صوفية، وقد عرّفوا التصوف بأنه اتباع الأخلاق والآداب الإسلامية المقتبسة من الكتاب والسنة، أو السعي إلى مقام الإحسان الذي عرفه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه: أن تعبد الله كأنك تراه، وكل كلامهم يصب في ذلك. انظر مثلاً قول الجنيد: "عِلمنا مضبوط بالكتاب والسنة، من لم يحفظ الكتاب، ويكتب الحديث، ولم يتفقه، لا يُقتدى به". «تاريخ بغداد»: 7/243، و«الرسالة القشيرية»: 1/51. وهذا هو التصوف الذي كان يعنيه ابن العربي بدليل قوله في كتابه اصطلاح الصوفية: (التصوف: الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهراً وباطناً، وهي الأخلاق الإلهية، وقد يقال بإزاء إتيان المكارم للأخلاق، وتجنب سَفْسافها؛ لتجلي الصفات الإلهية، وعندنا: الاتصاف بأخلاق العبودية، وهو الصحيح؛ فإنه أتم). انظر: اصطلاح الصوفية: 78. وقال: (التصوف بغير خلق لا يعول عليه). انظر: شرح مختصر ما لا يعول عليه: 31. إذاً فالتصوف أخلاق تحت مظلة الإسـلام، والصوفية الحقيقيون كانوا حكماء الإسلام وعلماء التربية والسلوك..
ثانياً: هل كان يقول بوحدة الوجود؟ هذه القضية تنتهي إلى اعتبار الخالق والمخلوق واحداً، وهذا كفر، والعياذ بالله، وقد يقولون: إن الله يحلّ في مخلوقاته، واسمها الخاص الحلول، وكلٌّ من الحلول والاتحاد كفر. والشيخ محيي الدين كان له كلام فلسفي أدبي على أرضية من الرؤية الصوفية؛ ظاهر هذا الكلام كان يمكن أن يفهم منه الحلول والاتحاد، ولكنه نفى الحلول والاتحاد في كثير من المواطن من كتبه، كما فسر كلامه الموهم في كثير من المواطن الأخرى، وأوضح مراده، ولم يكن المضمون خاطئاً، فمن ذلك: قوله في كتاب اصطلاح الصوفية: (الاتحاد تصيير ذاتين واحدةً، ولا يكون إلا في العدد، وهو محال). ص: 60. وقوله في كتاب الكنه فيما لابد للمريد منه: (ليس كمثله شيء)، وحسبك هذا، فكل وصف يناقض هذه الآية مردود. ص: 72. وقال: (اعلم [أنك] إنما ترى الأشياء بحسب نظرك، فيقال: إنك الرائي والمرئي، وليس لاتحاد الحقيقتين). انظر شجون المسجون:119.
من هذا الكلام: يتبين أن الرجل كان منـزِّهاً لربه، وأنه كتب كلاماً موهماً، ولكنه شرحه بأنه أراد اتحاد إرادتين، أو أن الفعل من الله ومن العبد؛ بمعنى أنه من الله خَلقاً، ومن العبد كسباً، أو أن العبد لا يفهم ربه إلا بما يعرف من نفسه؛ لقصور فهمه، وهو في كل هذا الكلام، لا يشبِّه ولا يجسِّم، ولا يعتقد حلولاً ولا اتحاداً، ولم أر له قولة: أنا الله، أو ما شابه ذلك، ولكن من نحو ما نقلته، كقوله: فإن قلت فعل الله فالقول ثابت، وإن قلت فعلي فهو صدق، وقوله: إرادته نجري بأيدي عباده، فأفعالهم أفعاله. فإذا صحَّ المعنى، كان عدم رضا خصومِه بالشكل، وأسلوبِ التعبير قضية أخرى لا يبنى عليها ما يبنى على فساد المضمون.
ثالثاً: ما وضْعُ كتبه التي تحوي على إشكالات؟ الحقيقة هي: ما اتّفق عليه المؤرخون وكتّاب التراجم أنّ مؤلّفات الشيخ محي الدين بن عربيّ أو كثيراً منها لم تخْلُ من دسّ الباطنييّن، لا سيّما كتابه المشهور: (الفتوحات المكيّة)، وكان ذلك شأنهم وطريقتهم في ترويج أفكارهم الباطنة، وممن ذكر ذلك: ابن العماد في كتابه (شذرات الذهب)، والمقرّي في كتابه (نفخ الطيب)، والإمام الشعرانيّ في (اليواقيت والجواهر)، وحاجي خليفة في (كشف الظنون). إذن أكَّد العلماء أن هناك من افترى على الشيخ المظلوم، ودسَّ في كتبه الدسائس، وجزم بذلك الحصكفي في كتابه الدر المختار، والله أعلم. وعلى كل حال: ينهى أهل العلم والفضل عن قراءة كتابي الفصوص والفتوحات لما فيهما من دس أوقعه نُسّاخ الباطنية في عصره بهما.
وينصح بقراءة أربع كتب له بشكل خاص مؤكِّداً على ذلك جداً: ما لا يعوَّل عليه (اختصره الشيخ محمد الحمزاوي)، وكنه ما لا بد للمريد منه، والوصايا، وروح القدس في محاسبة النفس. نعم قد تجد في بعضها كلاماً صوفياً مختلَفاً في اعتباره بين العلماء، ولكنك لن تجد عقيدة الحلول والاتحاد، بل نفيَهما، ولن تجد زندقة، ولا إلحاداً، وإنما هي فكر مشرق، ومواعظ رائقة، وكلام أدبي عذب لطيف.
أخيراً: الأصل في المؤمن حسن الظن مهما استطاع، ولجم اللسان عن قالة السوء بالمؤمنين، ناهيك عمن شهد لهم الأكابر بالصلاح، وطالما حكى أكثر من مؤرخ عن حدوث دس في كتب الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى فلا مبرر إذن لمن يطيلون ألسنتهم في حقه، ناهيك عن جريمة التكفير التي يطلقونها بلا مبرر ولا تحرز. ورحم الله من قال: (لأن أخطئ وأدع ألف رجل على الملة خير من أن أخطئ وأخرج رجلاً من الإسلام).