الحنين إلى الزمن الجميل ... المِهن القديمة في القدس العتيقة حكايا عابقة بالأصالة والتحدي

الثلاثاء 03 أيلول , 2019 04:00 توقيت بيروت ثقافة

الثبات ـ ثقافة


 في شوارع القدس العتيقة وأسواقها، تفوح رائحة المِهن العابقة بالحنين إلى الزمن الجميل، كعلامة تجارية فارقة دالة على العراقة والأصالة ومتانة الصنعة اليدوية الفلسطينية المُعبرة عن الهوية العربية الفلسطينية للأماكن الواقفة وسط إصرار سكانها على البقاء ومواصلة النضال.


رتق الأحذية وإصلاح الحقائب والشنط الجلدية الصغيرة وحياكة البدلات والملابس ومشغولات الأدوات الحديدية في سوق اللحامين نسبة للحام الحديد، وليس لباعة اللحوم وصناعة مكانس القش والسلال وأعواد الخيزران والخياطة القديمة وصناعة الكسبة والطحينية وزيت السمسم -السيرج- في معصرتي الجبريني في حارة السعدية، والصالحي في باب السلسلة، كل تلك الصناعات المتنوعة تُنتج لنا حكايات الوجد والحنين وعشق حجارة القدس العتيقة وأزقتها وحواريها بلا حدود.


الدبس والطحينية المقدسية والكسبة 

إسحاق الجبريني، أحد أصحاب معصرة الجبريني في حارة السعدية في عقبة المولوية يستدعي من الذاكرة قصة ريبورتاج أعده التلفزيون الألماني قبل نحو سبع سنوات عن المعصرة التي تنتج زيت السمسم –السيرج- ويُستخدم في صناعة الكعك المقدسي والطحينية والكسبة وأصنافٍ مختلفةٍ من الحلاوة المقدسية الفاخرة.

فوجئ ذات يومٍ باتصالٍ هاتفيٍّ من طبيبٍ مُغتربٍ فلسطينيٍّ من سكان البلدة القديمة لم يزرها منذ 30 عاماً، يتصل به ويحكي له بتأثُّرٍ شديدٍ من الريبورتاج الذي بثه التلفزيون الألماني، وأعاده إلى ذكريات حارات القدس، وكيف كانوا وهم أطفال يتسابقون للحصول على الكسبة والطحينية والسمسم والحلاوة من المعصرة القريبة من منزلهم ويطلق التنهيدات والحسرات على أيام القدس العتيقة والحنين الشديد لها، بالرغم من الاحتلال اللعين الذي سرق الفرحة من عيون المقدسيين وحرمهم حياتهم الحرة الهانئة.

ويتحدث سامي الجندي من حارة السعدية عن الدبس المقدسي الذي كانت تنتجه معصرة الجبريني، ويقول كان دبساً لذيذ المذاق يُضاهي الدبس الخليلي، وذلك لوجود حاكورة فيها أشجار الكرمة في فناء منزل أصحاب المعصرة، يستغلون عنبها لإعداد الدبس اللذيذ.

خلاطة الباطون لصنع الكسبة بدلاً من الأحواض
يروي إسحاق الجبريني صوراً عن المرحوم والده عندما كانوا يصنعون الكسبة في أحواض، ويقومون بهرسها بأقدامهم، وكانت طريقةً تقليديةً ومتعبةً جداً، إلى أن أقنع والده باستخدام خلاطة الباطون التي أنتجت الكمية نفسها تقريباً وبالجودة ذاتها.

ويذكر الجبريني كيف قام بتعليم أحد الأطباء المغتربين من الجالية العربية في أمريكا الذي قدم لشراء كمية من الكسبة ولكن بما أن الكسبة سريعة التلف، حيث يتغير طعمها بسرعة،ولا تحتمل وقتاً طويلاً، عرض عليه الجبريني أن يُعلّمه كيف يُعدّها بنفسه بعد أن لمس اشتياق المغتربين الفلسطينيين والعرب إلى تراث آبائهم وأجدادهم الذي تركوه خلفهم لكنهم ما زالوا يحنون إليه، ويتوقون شوقاً له.

ويقول الجبريني إلى اليوم ما زال المغتربون وغيرهم يطلبون منا عمل أطعمة معروفة بالطريقة القديمة، مثل: العدسية والعنطبيخ والشيشبراك والفوارغ والكرشات والسماقية. 

أبو إبراهيم السمان يتمسك بآلة التحميص القديمة

يقول أبو إبراهيم السمان، صاحب محمص السمان المجاور لسور القدس- بوابة الساهرة إنه يتلقى اتصالات من مواطنين مقيمين في أمريكا ودول مختلفة، يطلبون منه كميات من المحمصات والمكسرات التي يصنعها على آلة التحميص القديمة.

ويعتبر العديد من المواطنين أن هذه المحمصات تُحافظ على جودتها ومذاقها المميز العابق بالأصالة، خاصة أنها ما زالت تُحمّص بالطريقة التقليدية وبآلة التحميص القديمة، فتخرج شهية، تزّين سهرات العائلات المقدسية.

المكفوفون يتحدون وضعهم الصحي ويُحافظون على مِهن الآباء والأجداد

جمعية المكفوفين العربية، التي يعمل بها هؤلاء المبدعون تأسست عام 1932، وهي أول الجمعيات على مستوى العالم العربي، وتقع في عقبة المفتي بين المرحلتين الخامسة والسادسة من طريق الآلام في القدس القديمة، وهي تنتج جميع قطع تنظيف الماكينات والطراشة والزينة وفراشي دهان الأحذية.

سمير سبتة.. والمكنسة الخشنة (51 عاماً) 

يتفنن في صناعة المكنسة الخشنة التي يُطلق عليها مكنسة الشوارع والساحات العامة ومكانس البيوت، بالرغم من كونه مكفوفاً، وفي حديثه لـ"القدس" دوت كوم، يؤكد سبتة أهمية هذه الصناعة بالنسبة له، فهي تغنيه عن السؤال والحاجة، بل بالعكس فإنه يجد فيها تحقيقاً لذاته، بالرغم من كل المعاناة التي يمر بها، خاصة أنه كفيف، سواء من المجتمع أو حواجز الاحتلال، معتبراً أن "العاجز هو العاجز عن الحركة".
كما حطم سبتة رقماً قياسياً في تغليف كراتين شوكلاته، بحيث تفوّق على المبصرين في هذا المجال، في أحد مصانع منطقة قلنديا- عطروت.

الفنيّ الكفيف محمود طه يقطع السيل ويسبق المُبصرين

محمود حسن طه المُلقَّب بالرجل الغامض، أو علي بابا، أو حنضل، تحدث عن كيف تمكن من تصميم فرشاية ماكينة لعجين الخبز المستوردة بعد أن تعطلت الأصلية واستطاع أن يصنع قطعة كالأصلية تماماً، دون الحاجة لاستيراد قطعة جديدة مكلفة جداً كما أنجز عندما كان يعمل في الاتحاد اللوثري فرع المُطّلع كسوةً لهيكل ومجسم حصان من الخيزران، وتفاجأ صاحب الحصان بمهارة هذا الفني الكفيف.

ولم ينسَ طه المدرسة العلائية في بيت جالا حين عمل على إنشاء منجرة كاملة تحوي ماكينة تخزيق وبراية أصابع وأدوات، مثل منشار حبل ومخرطة وورق زجاج وفراشي القش وكراسي العربي الصغير و"درل" ومنشار، أي عدة ورشة كاملة متكاملة من الألف إلى الياء، وبمعنى آخر تحقيق الاكتفاء الذاتي للمدرسة العلائية.

ويُحدثنا طه عن حادثةٍ حصلت معه عند وادي النار أو وادي الديماس، حيث كان ومجموعة من زملائه في طريقهم إلى المدرسة العلائية في بيت جالا، وقد أغلق جنود الاحتلال الحاجز المقام هناك قُبيل العيزرية، ولم يسمحوا لأحدٍ بالمرور، ما اضطرهم إلى قطع طريق وادي النار بعيداً عن الحاجز، وكانت عبارة عن سيلٍ من المياه العادمة، وقد سبق المبصرين وقفز على صخرة، فتعجبوا من قدرته تلك، ما دفعهم إلى الشك بأنه أصبح مبصراً.

ويضيف طه أنه عندما اكتشف أن الحاجز مغلق أبلغ إدارة المدرسة أن حاجز 07 مغلق وأنه مُصمم على الوصول، فسخر منه أحد الإداريين، وقال له بدلاً من 07 خذ حاجز 08، لكن هذا الإداري وقف مدهوشاً عندما وصل طه إلى المدرسة وآثار المياه العادمة على حذائه.

 


سامي برسوم: 70 عاماً في مهنة الخياطة وتعامل مع عديد الشخصيات والقناصل

الخياط سامي برسوم مختار السريان بالقدس، انخرط في هذه المهنة من عام 1949 حتى الآن، أي أنه أمضى 70 عاماً من عمره خياطاً، و60 عاماً في محله الحالي الكائن في شارع مار مرقس قرب حارة السريان.

فصّل بدلات لمعظم رجالات القدس وشخصياتها ومعظم القناصل الأجانب، إلى جانب البدلات النسائية، ومن الشخصيات المشهورة التي خاط لهم بدلات الدكتور سليم مجج والدكتور عبد الله خوري، والدكتور حنا طليل، ومحافظ القدس أيام حكم الأردن حسن الكاتب، والقاضي طوقان، والحاكم نهاد جاد الله، والحاكم عبد الهادي، وصاحب فندق كابيتول أبو كاظم سرندح، وصاحب فندق ريتس إبراهيم سعادة، والقنصل الأمريكي فيليب ولكوكس والقنصل ديفيس بيرس والقنصل مايكل راتني، والقنصل الفرنسي جين كلود، والقنصل التركي أُوتام توكدومير وغيرهم الكثير.


نبيل خريم.. الإسكافي العريق

يدهمنا الإسكافي نبيل خريم (أبو عماد) في محلته في سوق اللحامين بعبارةٍ لاذعة "بالصدق ما بتصير.. بالكذب بتصير..عندما يأتيه زبون ويُصر على إصلاح حذاء أو حقيبة صغيرة أو محفظة جلدية وما شاكل، ولكن لا يمكن إصلاحها، لكن الزبون "يتمسمر" في المكان ويريد إصلاحها، ولا يستمع إلى نصيحة أبي عماد بأنه لا يمكن إصلاحها، وأنّ عليه الذهاب وإصلاحها في مكانٍ آخر إن أمكن.

ما زال أبو عماد يستخدم حجر الزيت الكبير من زمن جده ووالده قبل عقود لسَنّ السكاكين عليه، فيما نشاهد المدقة والسنديان في المكان.

ويستذكر حكاياته، خاصة مع العجائز المعروف عنهن اهتمامهن بالأشياء القديمة وعدم التفريط بها بسهولة، وبحثهن عن الصدق والأمانة في التعامل، كما حصل مع عواجيز فرنسيات لم يجرؤن على إصلاح أشيائهن إلا بعد معرفتهنّ الكلفة مسبقاً، وبعد إصلاحها قمن بدفع مبلغ أكبر قليلاً امتناناً للمصداقية والأمانة في التعامل وكلفة التصليح.

النتشة حدّادٌ صامدٌ في سوق اللحامين

يطرق الحداد أحمد النتشة بآلاته اليدوية، أو يشعل شرارات النار في لحام العديد من الأواني التقليدية في سوق اللحامين، الذي هو في حقيقة الأمر سوق لحام الأدوات الحديدية والمعدنية، وليس كما هي الحال اليوم لتجار اللحوم الذين انتشروا في جنباته كالنار في الهشيم.

ينزوي النتشة في ثياب الحدّاد، ما يشير إلى تحوُّل السوق من سوق الحدادين إلى سوق اللحامين، وبقاء الحداد النتشة الوحيد الصامد في هذا المكان العتيق.

النحاس في سوق الخواجات وباب االسلسلة ... تاريخ المدينة الأصيل


قطع أثرية نحاسية تُزين محلة النحاس محمد عبد الجواد في سوق الخواجات، إضافةً إلى محلٍّ آخر في سوق السلسلة القريب، وتظهر الرفوف بفوضوية، حاملةً مجموعةً نادرةً من الصواني والشمعدانات والأباريق التي وصلت قديماً من إيران وأفغانستان والمغرب والعراق وتركيا وسوريا، فضلاً عن قطع من الهند ونيبال.

ويُلاحَظ اهتمام القادمين من الدول العربية والإسلامية، وكذلك السياح الأجانب بقطع النحاس الفنية، التي تُمثل تاريخ المدينة الأصيل وإبداعات ساكنيها على مر العصور.

 


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل