الحكم العطائية ... "كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان"

الإثنين 29 تموز , 2019 10:13 توقيت بيروت تصوّف

الثبات - إسلاميات

"كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان"

 

نقف اليوم مع حكمة من حكم الإمام ابن عطاء الله السكندري رضوان الله عليه تتحدث عن صفة من صفات ربنا تبارك وتعالى "كان الله ولا شيء معه. وهو الآن على ما عليه كان".

 

الفقرة الأولى من هذه الحكمة:

 هي حديث ذكره رسول الله، وهو موجود في الصحاح. وقد أورد البخاري في ذلك ثلاث روايات: إحداها جاءت بلفظ "كان الله ولم يكن شيء غيره"، و هذه الحقيقة نصت عليها بعبارة كلية جامعة الآية القرآنية من كلام الله عز وجل: {للَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}.

 

أما الفقرة الثانية:

 فهي قوله رحمه الله "وهو الآن على ما عليه كان"؟، أي كما أن الله عز وجل لم يكن معه شيء في ظلمات الماضي القديم، قبل أن توجد المكونات، فهو الآن أيضاً ليس معه شيء. لم يختلف الزمن الحاضر عن الأزل والماضي السحيق في هذه الحقيقة قط، بل لن يختلف الماضي والحاضر في ذلك عن المستقبل الآتي أيضاً.

وأصحاب الاستعراضات السطحية العاجلة لما يقرؤون أو يسمعون، لابدّ أن يستنكروا هذا الكلام، وأن يعدّوه تحدياً باطلاً للمشاهدات المحسوسة. فهاهي ذي السماوات والأرض والأفلاك والحيوانات موجودة أيضاً مع وجود الله عز وجل.

ولكي تتجلّى الحقيقة الكامنة وراء هذه النظرة السطحية العجلى، يجب أن نتساءل: أتشترك المخلوقات التي نراها مع الله عز وجل في صفة الوجود؟ لاتستطيع أن تقول في الجواب: نعم، إنها تشترك معه في صفة الوجود، إلا إن استطعت أن تقول عن الطفل الصغير الذي يوقفه والده على قدميه بيديه إذ يمسكه بهما: إنه يشترك مع والده في صفة الوقوف على القدمين.

إن من الأمور البدهية أن الطفل في هذه الحال إنما يقف على قدميه بإيقاف والده له، فهو ما دام يمسكه بيده، يشدّه إلى الأعلى، يظهر بمظهر الواقف كأبيه، فإذا تركه خرّ واقعاً على الأرض، إذن فوقوفه متحقق بأبيه، لا مع أبيه. وكم بين العبارتين من الفرق الشاسع الكبير.

فكذلكم المخلوق بالنسبة للخالق، إن الله هو الذي أمدّه بصفة الوجود ابتداء، وهو الذي يمتعه بهذه الصفة دواماً، أي إن استمرار وجود المخلوق أياً كان، باستمرار إمداد الله له بالوجود لحظة فلحظة، فلو تخلّى الله عنه فلسوف يتحول في اللحظة ذاتها إلى هلاك وعدم.. فكيف يكون المخلوق شريكاً مع خالقه في صفة لايملك أن يستبقيها عنده لحظة واحدة؟

أي كل شيء ما خلا الله في حكم المعدوم، وليس بينه وبين أن يتبين لك هلاكه وبطلانه، سوى أن يتخلّى الله عنه، أي سوى أن ينتهي الإمساك الذي عبرّ عنه بيان الله بقوله: { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا}.

 

المعنى التربوي الذي ترسخه هذه الحقيقة في نفس المؤمن:

 هو حصر الربوبية، ومن ثم الألوهية، في ذات الله وحده، فلا يرجو الخير إلاّ منه، ولايخاف الضرّ إلا منه، وإذن فلايتكل إلاّ عليه، ولا يتخذ لنفسه ولياً من دونه. له وحده كل حبّه، ومنه فقط كل رجائه.

ومن شأن هذا المعنى التربوي، أن لايشغله شيء من المكونات التي يراها حوله عن الله عز وجل، ولايحجبه عنه، بل الشأن فيها أن تذكره بالله عز وجل إن نسيه، وأن يعيش منها مع صفاته ومظاهر آلائه كلما رآها أو تعامل معها.

ولايتحقق العبد بتوحيد الله عز وجل، إلاّ إن أدرك الحقيقة التي يقولها ابن عطاء الله بيقينه العقلي، وهي أنه ليس مع الله أي موجود لا اليوم ولا من قبلُ ولا من بعدْ، ثم اصطبغ وجدانه بهذا المعنى التربوي.

وملاك هذا الأمر أن تكون على بينة من الفرق بين الوجود مع الله وهو باطل ومستحيل، وبين الوجود بالله وهو ثابت وحق.

 

المصدر: شرح الحكم العطائية 

سماحة العلامة الراحل الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي - رضوان الله عليه -


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل