خاص الثبات
في زمن الانهيار الكبير، لم يعد الصمت فضيلة. ما عاد التغاضي ذكاءً، ولا الحياد حكمة. فالسكوت اليوم بات تواطؤًا، والتعامي خنوعًا. أمام مشهد سياسي معقّد، يخرج علينا مسؤولون أميركيون — وآخرهم توم باراك — ليضعوا لبنان على طاولة "إعادة رسم الخرائط"، دون أن يرفّ جفن لأي من رموز ما يُفترض أنها "المرجعيات المسيحية".
توم باراك، المبعوث الأميركي ذو الخلفية الاقتصادية والسياسية العميقة في مراكز القرار، لمّح، بل صرّح، بأن "لبنان الحالي" لم يعد صالحًا، وأن إعادة ضمه إلى المشروع الإقليمي، ربما من بوابة "الجولانيين" أو أدوات مشابهة، هو جزء من خطة أكبر تشمل كل المنطقة. هذا الكلام لا يقرأ إلا على أنه إعلان نية لضرب ما تبقّى من استقلال لبنان وشكله وتنوعه، ومن ضمنه ما يُسمّى بـ"لبنان الرسالة".
ومع ذلك، غاب وزير الخارجية عن الرد. وغاب البطريرك عن السمع. لا بيان، لا تصريح، لا عتب في عظة الأحد. لم نرَ القلق التقليدي على "الكيان"، ولا الحزن القديم على "الخصوصية اللبنانية". لم نسمع الصوت الذي كان يهدر في وجه أي تصريح إيراني عابر عن لبنان. أين كل ذلك الآن؟ لماذا يُسمح لتوم باراك أن يتحدث عن إعادة تشكيل لبنان كأنها مقاطعة أميركية أو زائدة دودية في الجسد السوري، دون حتى تذكير شكلي بـ"السيادة" أو "الميثاق الوطني"؟
عندما يتحدث أي مسؤول إيراني عن "المقاومة" أو يدلي برأي في الداخل اللبناني، تنهال الردود من بكركي، ومن صالونات "السيادة"، وتُستنهض ذاكرة الفينيقيين، وتُشحذ سيوف الحياد. أما اليوم، عندما يقول الأميركي صراحة إن "القوات" ستُبتلع مع سلاح "الجولانيين"، لا يرفّ جفن.
فهل المشكلة فعلًا في السلاح، أم في من يحمل السلاح؟
هل المعيار هو انتماء السلاح الجغرافي، أم وظيفته السياسية؟
لقد بات واضحًا أن جزءًا من القوى المسيحية في لبنان — للأسف — لم تعد ترى من موقعها إلا ما يرضي الأميركي. و بكركي، تتحول تدريجيًا إلى مجرد غرفة انتظار تتابع نشرات الأخبار الأميركية، وتصلي لمشروع لا يُشبه لبنان، ولا يُشبهها.
لبنان لا يُحفظ ببيانات خشبية ضد "سلاح الحزب" فقط، بل بموقف متوازن من كل تهديد لوجوده، سواء جاء من واشنطن، أو من تل أبيب.
وإذا كان بعض السلاح يشكل قلقًا، فبعض الصمت أكثر فتكًا.
لأن السلاح يُقاوم. أما الصمت في وجه الخيانة، فلا يُغتفر.