أقلام الثبات
عندما وقَّع بابا الفاتيكان الراحل فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب، وثيقة "الأخوَّة الإنسانية" بين أبناء الديانات الإبراهيمية الثلاث؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، عام 2019 في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، وإقامة مجمَّع ديني، يضمّ كنيس “موسى بن ميمون”، وكنيسة “القديس فرنسيس”، ومسجد “الإمام الطيب”، أبدى بعض المفكرين اليهود دهشتهم قبل المسيحيين والمسلمين، من هشاشة هذه الاتفاقية، لأن الحضور الديني اليهودي كان مُغيَّباً، لا بل مُقنَّعاً بالصهيونية السياسية التي ينكرها اليهود المتديِّنون، ويعتبرونها بدعة عمرها مئة سنة في تاريخ ديانتهم ذات الآلاف من السنوات.
بدت إرادة بابا الفاتيكان الراحل وشيخ الأزهر في توقيع هذه الاتفاقية وكأنها خارطة طريق إرشادية دينية عُليا لمواجهة الكراهية ومحاربة الحركات التكفيرية في الشرق، لكن من قبيل المصادفة كانت هناك إطلالة تلفزيونية خلال نفس العام 2019 للرئيس السوري السابق بشار الأسد، متحدثاً عن مخاطر الإرهاب المتمادي، وقال حرفياً: "سيُعاد إنتاج البغدادي تحت اسم آخر وبشخص آخر، وربما قد يتمّ إنتاج داعش كلها تحت اسم آخر وتنظيم آخر؛ حسب الحاجة، لكن يبقى الاستخدام نفسه والفكر نفسه".
هنا لا بد من المقارنة بين العواطف الدينية في التقارب بين الأديان في فكر بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر، والرؤية السياسية الواقعية التي كانت لدى الرئيس الأسد، ونقرأ كل الأحداث الإرهابية والتكفيرية التي حصلت في الشرق الأوسط بعد العام 2019، لننتهي إلى مجازر العصر في قطاع غزة ولبنان وسوريا على سبيل المثال لا الحصر، أولاً لتأكيد حقيقة الصهيونية المجرمة بملابس يهودية، وثانياً لنعطي الرئيس الأسد حقه في التوقعات المنطقية، عبر إنتاج الجولاني بديلاً عن البغدادي، وهيئة تحرير الشام بديلاً أو شبيهاً لداعش.
وكي لا تستمر أعراس "الاتفاقيات الإبراهيمية" على وقع قرع أجراس الكنائس وتكبير المآذن ووضع رسائل السلام اليهودية في جحور حائط المبكى، فإن العالم الحر بكى أكثر من كل الشرق الأوسط شهادة أطفال غزة منذ 640 يوماً قتلاً وتجويعاً وعطشاً وتهجيراً ومرضاً ويُتماً، وإذا نجح الصهاينة في استمرار تسويق أنفسهم دعاة سلام في الاتفاقيات الإبراهيمية الهزلية في الماضي، فإن حقيقتهم باتت منشورة على سطوح العالم بأسره، بيهوده ومسيحييه ومسلميه.
وبصرف النظر عن ذهاب بعض الدول العربية في الماضي للتطبيع تحت أي عنوانٍ كان، سواء كان جلباب هذه الدولة أنها من "دول الاعتدال العربي"، وأن خطوتها تخدم القضية الفلسطينية، أو كانت مظلة تلك الدولة "وحدة الديانات الإبراهيمية”، فإن الجلباب ملطَّخ بدماء عربية منذ العام 1948 وحتى هذا التاريخ، أما المظلة فما هي سوى قلنسوة يهودية تكسو الرأس الصهيونية.
كل ما هو ثابت أن التطبيع قد حصل مع كيان صهيوني وليس يهودي، بدليل أن جماعات كثيرة، دينية وعلمانية من اليهود داخل الكيان وفي الخارج الأميركي والأوروبي، تتنكَّر له وتنبذه، لا بل تعتبره مخالفاً للشرع اليهودي وللتوراة ولوصايا الله، واليهودية التي عمرها آلاف السنوات تعتبر الصهيونية بدعة عمرها قرن واحد، والهدف منها إنشاء دولة مدنية آمنة لليهود، كان مقرراً لها أن تكون في أوغندا أو الأرجنتين، وحصل ما حصل في وعد بلفور، فكانت أرض فلسطين المستباحة بريطانياً لتكون دولة لليهود على حساب أهل الأرض من الفلسطينيين، لكن بقي لدى اليهود، وسيبقى، خوفهم المزمن، خصوصاً بعد تجربة غزة، أن "إسرائيل" لن تكون يوماً وطناً آمناً لليهود، ما دامت تجاهر بيهودية الدولة، وما دامت ترفض حلَّ الدولتين.
من هؤلاء اليهود المُشكِّكِين جاك روزن؛ رئيس الكونغرس اليهودي - الأميركي، الذي قال خلال بدايات الحرب على غزة:
"منطقة الشرق الأوسط استفادت من السلام النسبي والازدهار المتنامي، الذي بشَّرت به اتفاقيات أبراهام، الموقعة بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وعلى رأسها المغرب والإمارات والبحرين، لكن هذه الاتفاقيات قد تكون حجر الدومينو الذي سيتم إسقاطه في حال حدوث مزيد من التصعيد بين إسرائيل وحماس، أو في حالة تزايد الضغط الشعبي المحلي على الدول الإقليمية المعنية".
وأضاف روزن، في مقالة له في مجلة “تايم” الأميركية الأسبوعية: "من المأساة أن الدولة اليهودية مازالت تواجه تهديداً وجودياً حقيقياً في عصر اتفاقيات أبراهام".
وأضاف “روزن” أنه “في وقت تجد الدولة اليهودية نفسها في معركة وجودية يومية، مازال من الممكن أن تخرج عن السيطرة، يمكن أن يبدو المستقبل مفهوماً مجرداً وترفاً فكرياُ، لا يستطيع القادة الإسرائيليون تحمُّل مناقشته، لكن من الضروري أن تنظر إسرائيل وحلفاؤها إلى الأفق، فإذا علمتنا الأحداث الأخيرة أي شيء، فهو أن مستقبل إسرائيل ليس نتيجة ضائعة وأن هذه الدولة ليست مؤكدة”.
ويرى “روزن” أن الكلمة ليست واحدة للميدان في حرب غزة، وليس أكبر مما يدور على المتاريس سوى ما يدار في الكواليس من سياسات وسيناريوهات عن متغيرات راديكالية عميقة، ليس فقط في فلسطين وداخل الكيان الصهيوني بل أيضاً في المنطقة والعالم. متغيرات جيوسياسية واقتصادية واستراتيجية، سواء بقيت الحرب محصورة في القطاع، و”المساندة” محدودة، أو توسعت لتصبح حرباً شاملة، وأحد الأسئلة المطروحة هو: إلى أي حد تأثرت “اتفاقات أبراهام” بالتوحش الإسرائيلي في الهدم وقتل الآلاف من النساء والأطفال وإصابة عشرات الآلاف من المدنيين حتى داخل المستشفيات؟.
قد يكون “روزن” على حق، أن اتفاقيات التطبيع مع الكيان الصهيوني لم تؤثر ولم تتأثر، لكنها ما خدمت فلسطين يوماً، لا بل شجعت العدوان على مزيدٍ من العدوان ولكن، دول التطبيع هذه لم تتمكن أيضاً من كمّ فوهات بنادق المقاومة، وشأنها في المواجهة شأن جامعة الدول العربية التي ما اعتمدت عليها المقاومة الفلسطينية وكل حركات المقاومة يوماُ، وما على الجامعة مستقبلاً، سوى البحث عن مصير الاتفاقات الإبراهيمية التي سقطت في أنفاق غزة، وهي لن تكون أقوى من “عميدة الاتفاقات” كامب دايفد، التي باتت موضع تساؤل حول ديمومتها بعد احتلال العدو الصهيوني محور فيلادلفيا واجتياح معبر رفح وتكرار الحديث عن احتمال تهجير أبناء غزة الى مصر وأبناء الضفة إلى الأردن أو الى "سورية الجولاني".