أقلام الثبات
يعاني العقل العربي من أزمة عميقة في فهم استراتيجيات المشروع الصهيوني، لناحية أساليبه ووسائل تنفيذه.. وتقسيمه المرحلي وتتسم المواجهة لهذا المشروع بردود فعل آنية ومحلية، مبتورة عن فهم الماضي ودون استشراف للمستقبل، فتتخذ القرارات غالبًا بدافع الانفعال، والمجاملة، والعفوية، ممزوجة بالخوف أو اغتنام فرصة يُعتقد أنها لن تتكرر، حيث يرى البعض أن المكاسب من عرض تفاوضي مؤقت تفوق انتظار فرص أخرى، حتى وإن كانت أقل ويسارع البعض للتوقيع، وفي أحيان أخرى يبدي استعدادًا لتقديم تنازلات كبيرة أو دفع "سلفات" مسبقة لإغراء الجانب "الإسرائيلي" بالإسراع في التوقيع!
يظهر التباين والاختلاف بين العقل السياسي العربي والعقل السياسي الصهيوني على مستويات عدة، سواء في اتخاذ القرارات، أو في الأهداف والوسائل والمضامين، ويُمكن تلخيص جوانب قصور "العقل العربي" فيما يلي:
- افتقار العرب إلى مشروع موحد أو حتى فردي ذي رؤية واضحة، إذ يركز المشروع السياسي لدى الحاكم أو الملك أو الأمير على حفظ سلطته وإطالة مدة حكمه، وتأمين وراثته العائلية للسلطة.
- ينشغل العقل السياسي للحاكم العربي أو الحزب أو أي تشكيل جماعي بالسعي للسيطرة، بالتوازي مع انشغاله بالصراعات الداخلية (سواء داخل الدولة أو الطائفة) وعندما يصل إلى الحكم، يتحول هذا الصراع إلى السيطرة على الدول المجاورة الشقيقة والصديقة وتوسيع النفوذ عليها.
- يتعامل العقل السياسي العربي مع "إسرائيل" على أساس أنها دولة مستقلة تسعى للسلام ضمن حدودها، مستسلمًا لخطابها التضليلي والمخادع، ويتعامل معها وكأنه بمنأى عن مطامعها، وأنه لن يكون الضحية التالية بعد القضاء على ضحيته الأولى، بل قد يصبح شريكًا في التآمر على "شقيقه" الآخر.
- يعاني العقل العربي من النسيان أو التناسي لأحداث الصراع مع إسرائيل، ويسعى أحيانًا إلى تجميل صورتها أو صناعة وجه إيجابي لها، متجاهلاً تاريخها الدموي المليء بالمجازر والقتل والتدمير والاغتصاب، والذي أدخل المنطقة في صراعات مستمرة لأكثر من سبعين عامًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
- يسعى العقل العربي لتغيير قِيَمه ودينه وتقاليده وعاداته بهدف التقرب من إسرائيل وقبولها له " كعبد" أو مطبّع أو خادم، ويهرول نحوها "عاريا" مجردًا من كل أوراق القوة العقائدية والاجتماعية والسياسية، فتُبادر للسيطرة عليه، متجاوزةً مرحلة التفاوض إلى مرحلة الأمر والتحكم المطلق، دون أي حق في الاعتراض على القرارات، ولا حتى طلب تمديد للمهل الزمنية لتنفيذها (كما هو الحال في لبنان وغزة).
- لا يزال العقل العربي يرفض تصديق أن "إسرائيل" لا تشبع ولا تكترث به، بغض النظر عما تحصل عليه بالقوة أو ما يُعطى لها طوعًا أو كرهًا، فكلما حققت مكتسبات، تعود للهجوم سعيًا لمكتسبات أخرى بلا حدود؛ فبعد رفضها تقسيم فلسطين عام 1949، عادت واحتلت سيناء والضفة الغربية والجولان عام 1967. ومع إبرام اتفاقيات "سلام" مع مصر والأردن والفلسطينيين، احتلت جنوب لبنان عام 1982، وها هي تعاود احتلال غزة وبعض مناطق جنوب لبنان والجنوب السوري عام 2025، مُعلنةً تقدمها نحو "إسرائيل الكبرى" التي تمتد لتشمل العراق وسوريا والأردن والسعودية وتركيا.
- يضغط العقل السياسي العربي للتخلي عن الدين الإسلامي، لكنه في المقابل يزحف نحو "الديانة الإبراهيمية" التي صنعتها الصهيونية والماسونية عبر بوابة اتفاقات "إبراهام"، بينما يتمسك العدو الإسرائيلي بدولته الدينية التلمودية - التوراتية ويربط كل أفعاله السياسية وحروبه العسكرية بأسفار التوراة والتلمود.
إن العقل السياسي العربي مصاب بالزهايمر وفقدان الذاكرة والانفصام، لا سيما العقول العربية الرسمية الحاكمة وبعض الأحزاب والمؤسسات الدينية والمثقفين وهو قاصر عن مواجهة العقل الإسرائيلي رغم إمكانياته، حتى وصل به الأمر إلى أن يستسلم العرب مبتسمين ويرفعوا شعار (زواج العقل "الإسرائيلي" مع المال العربي والاعتراف بعدم امتلاك العقل، بل بامتلاك مال النفط، وهذا أسوأ أنواع الهزائم).
إن دور حركات المقاومة، إضافة إلى تحرير الأرض، هو حفظ ذاكرة الأمة، و"الحجر" على العقول المريضة، وإبقاء جذوة الصراع مشتعلة لمنع النسيان والحفاظ على القضية.
إن واجب "العقل العربي المقاوم" أن يتقدم إلى ساحات القتال بالكلمة والفكرة واللوحة والقصة والمسرح وقصيدة الشعر، دون التخلي عن سلاح الصواريخ والبنادق، لأننا نخوض حرب حضارات وليست حرب حدود وكيانات. وقد نحتفظ بالجغرافيا ونخسر هويتنا وثقافتنا وقيمنا الأخلاقية، لأننا خسرنا معركة العقل وحررنا الأرض ولكننا وقعنا ضحية احتلال العقل.
محنة العقل العربي في فهم استراتيجيات المشروع الصهيوني _ د. نسيب حطيط
السبت 15 تشرين الثاني , 2025 12:08 توقيت بيروت
أقلام الثبات
غزة ... الإيواء أولاً
الشرع يعود من واشنطن لإدارة الفوضى من دمشق _ أمين أبوراشد
لبنان بعد التطويع... "إبراهامية" وتطبيع؟ - عدنان الساحلي