أقلام الثبات
يأخذ الحكم ومؤسساته من الشعب اللبناني، أكثر بكثير مما يعطيه؛ يأخذ سلطة وضرائب ونفوذاً وغير ذلك، ولتغطية هذا التقصير، يكرر رئيسا الجمهورية والحكومة والوزراء حديثاً أصبح مضجراً عن بناء الدولة، وكأن من أتى بهذا العهد وحكومته المشبوهة يريد فعلاً بناء دولة، أو أن الظروف الدولية والإقليمية الضاغطة على المنطقة برمتها، تضع في حساباتها بناء دولة في لبنان.
ولا تلعب الأسباب الخارجية دورها فقط في تعطيل بناء الدولة؛ وهي التي تعمل على تدمير البلدان والمجتمعات وتفتيتها، بل أن أسباباً داخلية تتعلق ببنية النظام القائم وحساباته الطائفية، تجعل الحديث عن بناء دولة، نكتة يضحك لها الصغار قبل الكبار.
فمن يريد بناء دولة، لا يخضع لإملاءات الخارج ويطلق سراح عملاء للعدو "الإسرائيلي"، مدانين قضائياً ومحكومين بالسجن خمسة عشر سنة، فيصدر حكم من إحدى السفارات بإطلاق سراحهم والاكتفاء ب22 شهراً من السجن، كما لا يطلق سراح معتقل يحمل جنسية العدو "الإسرائيلي"، من دون مبادلته بأسرى لبنانيين لدى هذا العدو.
ومن يريد بناء دولة، لا يطلق سراح صندوق أسرار الفساد والفاسدين واللصوص، حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، مقابل كفالة بملايين الدولارات، ولا يتم سؤاله من أين أتى بها، مادام المودعون اللبنانيين لا يستطيعون الوصول إلى إيداعاتهم في المصارف اللبنانية؛ ولا الحصول عليها.
ومن يريد بناء دولة، لا يتهرب من كشف ملف تهريب أموال اللبنانيين إلى الخارج ومحاكمتهم، بما يكشف أسرار الفوائد الخيالية، التي استوفتها المصارف من الحكومات اللبنانية، طوال ثلاثة عقود مضت، مما ساهم في إفلاس خزينة الدولة وفي إفقار اللبنانيين وتجويع قسم كبير منهم، من ضمن المخطط الأميركي –السعودي، لإجبارهم على الانضمام إلى مسيرة الخيانة والخضوع والتطبيع مع العدو "الإسرائيلي".
ومن يريد بناء دولة، يكون قراره الأول تسليح الجيش اللبناني، عبر تنويع مصادر السلاح، وساعة إذ يمكن القول إن الكلام عن حصر السلاح، ليس أمر عملياتأميركي - "إسرائيلي"، تنفذه حكومة نواف سلام.
لم يقل لنا دعاة بناء الدولة، كيف لهم أن يبنوها وهم لم يدفعوا الأكثرية النيابية، التي "أوحي" إليها لتوصلهم إلى الحكم، لكي تلغي الطائفية بقانون وتطبق كامل بنود اتفاق الطائف، في الحد الأدنى. فكيف سيحاربون الفساد والفاسدين، فيما تحالف زعماء الطوائف وأصحاب المصارف، هو المهيمن على الحياة السياسية في البلاد، فيما الطوائف تحمي زعرانها وتحتمي بهم.
وكيف لحكم بالجملة والمفرق، مريض بالتبعية والمصلحية ويعيش عقدة الولاء للسفارات التي جاءت به؛ ولا يقدم على خطوة أو إجراء، إلا بعد إملاءات الخارج، كيف يمكن لحكم كهذا أن يبني دولة؛ وبعض وزرائه لا يخجل من التصرف وكأنه موظف صغير في وزارة الخزانة الأميركية، يريد تطبيق شريعة "قراقوش" على كتاب العدل، لتحويلهم بالجملة إلى مخبرين عند السفارة الأميركية؟
وهل يمكن بناء الدولة وسط مزايدات وزير الطاقة وجماعته السياسية (على سبيل المثال)، إذ مضى على وجوده في وزارته قرابة العام، فيما حال الوزارة مطرحك يا واقف، فهل سيقول مثل من سبقه "ما خلونا"، في حين أن المواطن ما يزال يعيش وسط ظلام كهرباء الدولة؛ وتحت تسلط وجشع مافيا المولدات؛ وتجارة المياه عبر أصحاب الصهاريج ما تزال مزدهرة. وكذلك الأمر بالنسبة لوزارة الهاتف، فالخصخصة جعلت البريد جزءاً من ذاكرة الآباء والأجداد؛ وهاتف الدولة الأرضي حلم صعب الوصول إليه، لمن يريد التخلص من فواتير شركات الاتصالات الدولارية، التي تأكل دخل المواطن بالعملة الوطنية. حتى شكاوى المتقاعدين من موظفي القطاع العام، لا تجد آذاناً صاغية، فهم يغادرون وظائفهم بعد عشرات السنين من الخدمة، فيما تعويضاتهم تحتسب وفق الحد الأدنى السابق، الذي يحتسب الدولار بألف وخمسمائة ليرة، فيكون تعويض الموظف قد انخفض ستين ضعفاً عما كان عليه قبل العام 2019. وكل هذا الغيض من الفيض، دليل مؤكد على أن الحديث عن بناء الدولة وعن حصر السلاح، ما هو إلا ذر للرماد في العيون، لإلهاء الناس بقضايا مثل معركة رئيس الحكومة مع صخرة الروشة؛ والهدف صرف أنظار الناس عن الفشل الكامل للحكم والحكومة، في إدارة البلاد والبدء بخطوات جدية لبناء الدولة، وفق مشيئة ومصلحة اللبنانيين؛ وليس وفق مشيئة ومصالح الخارج وسفاراته ومبعوثيه الوقحين.