أقلام الثبات
منذ أيام، تعمَّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال استقباله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إحراجه على ملأ الصحافة ووسائل الإعلام، عندما اعتبره بطلاً للدور الذي أدَّاه في سوريا، وقال له: "أنتم منذ ألف عام تحلمون بالسيطرة على سوريا، وخضتم الكثير من المعارك لهذه الغاية، وها هي سوريا بتصرفكم"، لكن ردَّة فعل أردوغان جاءت صامتة مع الكثير من الوجوم، لأن ترامب أحرجه في ما لا طاقة له به، بعد أن تمزَّقت سوريا، وكانت له اليد الطولى بذلك، عبر تمرير الإرهابيين إليها؛ عديداً وعدةً وعتاداً، واستحالة إعادتها الآن كما كانت، هو الذي كان يحلم منذ سنوات بالصلاة في الجامع الأموي بدمشق؛ كما "السلطان المنتصر"، فيما تلميذه أحمد الشرع بالكاد يبقى له جغرافياُ "إقليم دمشق".
المفارقة أن الانتخابات التشريعية لمجلس الشعب، جرت الأحد الماضي بلا انتخابات من الشعب؛ لجان شكَّلها الرئيس أحمد الشرع، هي التي اختارت ثلثي المجلس والثلث الباقي يعيِّنه الشرع نفسه( 70 نائباً) من أصل 210، مع استثناء السويداء والشمال الشرقي من هذه الانتخابات/ التعيينات لظروف لوجستية كما قال الشرع في تصريحه خلال اليوم الانتخابي، بينما الظروف الواقعية هي في انشقاق دروز السويداء وأكراد الشمال الشرقي عن "دولة أحمد الشرع".
في مقالة للدكتور بسام أبو عبد الله بعنوان : "حين انتُخب العدم... أسرع انتخابات في التاريخ"، يقول الكاتب:
"في بلادٍ تُدار بالدهشة لا بالمنطق، جرت انتخابات مجلس الشعب كما تمرُّ نسمة في ظهيرة تموز: سريعة، غير مرئية، ولا أحد يعرف من أين جاءت ولا إلى أين ذهبت.
انتخابات بلا منافسة، بلا حشود، بلا أصوات تُسمع… فقط صدى الكلمات الجاهزة: “عرس ديمقراطي”، “إقبال جماهيري”، و”صناديق نزيهة” كأنها قصائد من زمن النفاق الوطني.
لكن الأرقام هذه المرة لا تكذب، بل تضحك حتى البكاء:
في الزبداني، فاز عمار الأشرفاني بـ15 صوتًا فقط. رقمٌ يمكن جمعه من مقهى واحد إذا قرر روّاده أن يجرّبوا “الواجب الوطني” بين فنجان قهوة وسيجارة.
وفي القطيفة، انتصر خالد عرفات عرابي بـ18 صوتًا، أي ما يعادل نصف حافلة “سرفيس” في ساعة الذروة.
أما في التلّ، فقد حقق أيمن عبده شمو إنجازه التاريخي بـ 24 صوتًا، وهو عدد كافٍ لتأسيس “جمعية تعاونية” لا “مجلس شعب”....
والغريب في هذه الانتخابات الصوريًّة، أنها لا تمثِّل الديموغرافيا السورية ولا الجغرافيا، ونتائجها غطاء غير شرعي لأحمد الشرع؛ وفق ثقافة غالبية الشعب السوري، وهي ستكون مصدر قلق لدول الجوار والدول الخليجية باستثناء قطر، والنواب المحسوبين على الساحل العلوي هم مجرد أشخاص من ورق بانتظار صدور ورقة رحيل قوات حكومة أحمد الشرع من "إقليم وسط وغرب سوريا" فور عودة الشرع من زيارة موسكو منتصف الشهر الجاري.
وفي تزامن معارك قوات الشرع مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في منطقة دير حافر وحيَّي الأشرفية والشيخ مقصود بمدينة حلب، مع انتخابات مجلس الشعب التي قاطعها الأكراد، تبدو المعركة العسكرية الحاسمة واقعة لا محالة بين الطرفين، لكن مشكلة الشرع أن قواته غير متماسكة وهي أعجز من أن تواجه (قسد)، لأن الأخيرة مدعومة من غالبية الشرائح في المجتمع السوري المُطالِبة بدولة مدنية فيدرالية، والرافضة علناً لدولة مركزية يحكمها نوع من "الإسلام السياسي".
ضياع أحمد الشرع في الحسابات، أنه أصدر قانوناً مؤقتاً لإجراء الانتخابات التشريعية لإضفاء ما يعتقده شرعية شعبية مُستدامة لوضعه المؤقت، وشكٌَل لجاناً من ستة آلاف مواطن سوري ليكونوا الهيئة الناخبة البديلة عن الشعب، لاختيار ثلثي المجلس البالغ عددهم 140 عضواً، على أن يعيِّن الشرع الثلث الباقي لاحقاً، مع فرض لوائح ترشيح على أساس 70% من الأكاديميين و30% من الشيوخ وزعماء العشائر، ومن الطبيعي في ظل حكم "هيئة تحرير الشام" أن تختار اللجان المعيَّنة من قائد الهيئة مَن هم من الموالين لها عقائدياً، وبالتالي لا الداخل سيرضى بوصول هؤلاء، ولا الجوار الأردني والعراقي والمصري والسعودي سيرتاح لحكم "الإخوان"، ولا العالم الغربي المُنادي بالديمقراطية والدولة المدنية وحقوق الأقليات سيهلل لمجلس شعب طالع من مدرسة "جبهة النصرة".
ومع عجز الحكم "الإسلاميين الجدد" في تركيا عن جمع ما تم تقسيمه في سوريا من أقاليم باتت ثابتة (أكراد، ودروز وعلويين) بدعم دولي أو إقليمي لا فرق، سهى عن بال أحمد الشرع أن الدولة التي دعمت وصوله إلى الحكم إلى جانب تركيا هي قطر، ولقطر حكاية جديدة تمنعها من الاستمرار في لعب الدور الإقليمي الأكبر منها.
بعد ساعات من لقاء ترامب بأردوغان في البيت الأبيض و"تجيير" سوريا له، تم الإعلان أيضاً أن قطر باتت تحت الحماية الأميركية، وأن أي اعتداء على أراضيها هو اعتداء على أمن الولايات المتحدة وفق تصريح ترامب للإعلام.
في الخلاصة، لا تركيا المُنهكة التي كانت قيمة عملتها عام 2012، ليرتين تركيتين تساويان دولاراً أميركياً واحداً، باتت عملتها الآن 42 ليرة تركية للدولار الواحد، تستطيع إنعاش الشرع عبر التورط من جديد في سوريا، ولا قطر الخائفة على أمنها وعلى منشآتها النفطية بوارد الخروج عن طاعة أميركا ما دام العرش قد تقزَّم بعد ضربتي إيران و"إسرائيل"، وبات رهينة الحماية الأميركية الكاملة.