الهجرة النبوية: حدث ديني برؤية ثقافية

السبت 28 حزيران , 2025 07:01 توقيت بيروت ثقافة

الثبات-ثقافة

عندما نتناول الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة، فإننا غالباً ما نتوقف عند بعدها الديني والروحي، باعتبارها محطة تأسيسية في تاريخ الإسلام، غير أن هذا الحدث يحمل في طياته أبعادًا ثقافية عميقة، جديرة بالتأمل والبحث، لِما فيها من تحولات حضارية شكلت ملامح المجتمع الإسلامي الأول، وأرست قواعد ثقافة إنسانية متقدمة سبق بها المسلمون عصورهم

  ففي اللحظة التي خرج فيها النبي سيدنا محمد ﷺ من مكة، لم يكن يغادر فقط أرضاً تضطهده، بل كان ينتقل بفكرة، وبرؤية ثقافية جديدة

 لقد كانت المدينة المنورة، قبل الهجرة، موطناً لقبائل متنازعة، وأديان متعددة، ونسيجاً اجتماعياً هشاً، لكن مع قدوم النبي، وُلد مجتمع جديد، لا على أساس القربى أو الدم، بل على أساس المبدأ، والإيمان، والتعايش السلمي

  وثيقة المدينة كانت أول تجسيد لهذا التحول الثقافي، حيث نصت على التعددية والعدالة والحقوق المتبادلة، في نموذج أشبه ما يكون بدساتير الدول الحديثة

لم تُقصِ الوثيقة المخالفين بالدين، بل ضمّتهم تحت مظلة عقد اجتماعي يكفل حرية الدين والتكافل والدفاع المشترك ومعرفة الحقوق والواجبات

المسجد النبوي بدوره، لم يكن فقط بيت عبادة، بل كان مركز إشعاع ثقافي، تُعقد فيه الحوارات، وتُدار فيه شؤون الدولة، وتُبنى فيه العلاقات الاجتماعية

 هذه الثقافة الشاملة للمسجد تعكس عقلية حضارية تُدرك أن بناء الإنسان لا ينفصل عن بناء المكان والهوية

  الهجرة أيضاً أسست لما يمكن تسميته بـ"ثقافة الاغتراب من أجل المبدأ"، وهي ثقافة راقية تعني أن الإنسان قد يترك وطنه، وماله، وعلاقاته، إذا تعارضت مع قيمه ومبادئه، إنها صورة مضيئة من صور التضحية لأجل التغيير، وصناعة واقع أكثر عدلاً وإنصافًا

  لقد أعادت الهجرة النبوية تشكيل الهوية الإسلامية من كونها جماعة مضطهدة إلى أمة قائمة، لها ثقافتها الخاصة، وسلوكها، وتشريعاتها، ونظرتها للكون والإنسان

 وبالتالي فإننا حين ننظر إلى الهجرة برؤية ثقافية، فإننا نستلهم منها قيمًا معاصرة في الإدارة، والسياسة، والاجتماع، والأدب، والهوية 

وفي زمن التحديات والاضطرابات، يظل درس الهجرة دعوة لتجديد الفكر، وبناء المجتمعات على أساس من العدالة والحرية والوعي الثقافي، تمامًا كما فعل رسول الله ﷺ وصحابته الكرام، حين صنعوا من الحدث الديني منطلقًا لنهضة حضارية لا تزال أصداؤها قائمة إلى اليوم.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل