أقلام الثبات
تشهد الساحة الإعلامية حملة تجن وتطاول على الطائفة الشيعية، من قبل أفراد وجماعات لم يلقوا العقاب القانوني الرادع من الجهات المعنية الرسمية، على الرغم من أنهم مثيرو فتنة موصوفة، يهددون بها وحدة اللبنانيين.
وبلغ الأمر بصويحف رخيص و"بنص لسان"، أن يخاطب شريحة لبنانية يقارب عديدها ثلث البلد، على أقل تقدير، بقوله: "حلوا عنّا".. وكأنهم يسكنون في دار أهله، أو أنهم ضيوف في ديوانه. ويستطرد في توجيه الإهانات لهم واستفزازهم. كل ذلك لأن الأطراف الفاعلة في هذه الشريحة، تتعامل مع الجهات الداخلية المناوئة بمنطق الصبر والتعقل؛ وليس بمنطق المحاسبة والثأر، لعل العقل يعود إلى تلك الرؤوس العنصرية الحامية، التي تستغل الفرصة بين وقت وآخر، لتستقوي بالعدو "الإسرائيلي" تارة؛ وبكل صاحب نفوذ طارئ ومتسلط، لتمارس من خلفه حقدها على شركائها في الوطن، انطلاقاً من منطق متعال يمارس الكذب وتزوير الحقائق؛ وتضليل الجاهلين بمنطق الأمور وبتاريخ كل جهة في هذا البلد الصغير.
وهذه الأصوات التي تنفث الحقد والضغينة، ستستدعي أصواتاً مواجهة، تعتبر السكوت على هذا الواقع الشاذ دونية وتواضعاً في غير موضعه، مما ينذر بأن ردات الفعل لن تكون مستقبلاً بروح التعقل الحالية، بل ربما ستكون شرارة تصيب بنارها أصحاب تلك الأصوات المنكرة، التي لا تراعي جيرة ولا شراكة، بل تعمل بوقاً لصالح من يدفع أكثر، من قوى النفوذ والتسلط الخارجي، حسب ما يردد معظم اللبنانيين.
والواقع أن الشيعة براء من كل التهم التي يتجنى بها عليهم اصحاب تلك الأصوات المأجورة. فهم لم يتعاونوا مع الحركة الصهيونية في إيجاد الكيان "الإسرائيلي"، الذي يمارس العدوان بحق لبنان واللبنانيين. في حين كان التواصل بالطول والعرض، بين أبرز الزعماء الموارنة والوكالة اليهودية، في سنوات ما قبل تسليم المحتل البريطاني فلسطين، للعصابات الصهيونية، التي سلحتها ودربتها ومولتها الدول الغربية، التي نراها اليوم ترسل اساطيلها لحماية كيان العدو. لكن التاريخ يسجل أن الشيعة عموماً وفي مقدمهم أبناء الجنوب، كانوا خير عون لأبناء فلسطين، في دفاعهم عن بلادهم وأرضهم؛ وفي احتضانهم بعد نكبتهم.
وتسجل أحداث تلك المرحلة، ليس فقط سعي البطريرك أنطوان عريضة مع الصهيوني حاييم وايزمن، لمد حدود الكيان اليهودي إلى نهر الأولي، للتخلص من المسلمين الذين يشكلون حاجزاً يفصل "الدولة المارونية" المزعومة عن الدولة اليهودية. بل كذلك تسجل لرئيس دولة الاستقلال بشارة الخوري، قوله لمندوب الوكالة اليهودية الياهو ساسون، "إن التعاون بين فلسطين اليهودية ولبنان الماروني، يتطلب إزالة حاجز يفصل بينهما هو جبل عامل. وإن المطلوب إفراغه من الشيعة لأنهم يشكلون خطراً على بلدينا". ولعل هذه الفكرة هي ملهمة ذلك الصويحف، الذي اعتلى شاشة تلفزيون لبنان الرسمي، ليتهجم على الشيعة بقوله "حلوا عنّا".
كما تذكر صفحات تلك المرحلة، أن فكرة إثارة الخلافات بين السنة والشيعة، هي من بنات أفكار الياهو إيلات، في حواراته مع البطريرك عريضة ومع بشارة الخوري وإميل إدة وغيرهم من دعاة الوطن القومي الماروني.
من هذه الخلفية يتحرك اليمين المسيحي في لبنان، بأصوات عنصرية تتجاهل أن الموارنة هم السبب الأساس في كل ما عانى منه لبنان خلال العقود الماضية، في حين كان الشيعة وما زالوا هم الضحايا.
فعندما ارتكب النظام الأردني مجازر بحق المقاومة الفلسطينية، في السلط واربد وجرش وعجلون ومخيمات عمان وغيرها، في اعوام 1968 و1969 و1970، كان للحركة الوطنية اللبنانية اليد الطولى، في فتح الطريق لانتقال المقاومة الفلسطينية بسلاحها إلى لبنان؛ وفي تشجيعها على ذلك. وكان الراحل كمال جنبلاط زعيم الدروز هو قائد الحركة الوطنية. وكان قسم كبير من قيادات تلك الحركة، من المسيحيين والموارنة خصوصاً.
وتولى قائد الجيش اللبناني عام 1969 إميل البستاني، الماروني، تشريع وجود السلاح الفلسطيني في لبنان، عبر اتفاق القاهرة المشهور، طمعاً من البستاني بإرضاء المسلمين وإرضاء زعيم العرب حينذاك، القائد الراحل جمال عبد الناصر. حتى أن عبد الناصر ذاته استغرب مدى تفريط البستاني، في تنازله وتحويله أجزاء من الجنوب اللبناني إلى "فتح لاند". صحيح أن كثيرا من رجال الشيعة انضموا إلى صفوف المقاومة الفلسطينية وقاتلوا معها، لكن الشيعة تحديداً وأهل الجنوب عموماً، هم الذين تحملوا الضريبة الأكبر لوجود المقاومة الفلسطينية في قراهم وبلداتهم. في حين انقسم بقية اللبنانيين إلى فئتين، فئة تمارس نضال المقاهي والملاهي، حتى لو حمل بعض أفرادها السلاح. وفئة مدت أيديها للعدو "الإسرائيلي" لتتعاون معه، خصوصاً أن الوجود الفلسطيني المسلح، ساهم في تغيير المعادلات اللبنانية الداخلية، بتشجيع المسلمين على رفع أصواتهم ورفض تسلط "المارونية السياسية" واحتكارها للسلطات والحكم في لبنان. ولا ننسى القمة المشهورة، التي عقدت في المقر الصيفي لدار الفتوى في عرمون وحضرها: مفتي الجمهورية الراحل حسن خالد، رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الإمام المغيب موسى الصدر وشيخ عقل الدروز الراحل محمد أبو شقرا. وكان ملخص قرارها " إذا كان الجيش اللبناني هو جيش الموارنة، فإن المقاومة الفلسطينية هي جيش المسلمين".
وهكذا تطورت الأمور ليتحالف بشير الجميل مع العدو "الإسرائيلي"، الذي اجتاح لبنان عسكرياً ووصل إلى بيروت وإلى قصر الرئاسة في بعبدا، ليحقق هدف بشير (الذي لم يكتمل بسبب اغتياله) في الوصول إلى رئاسة الجمهورية، مقابل تحقيق هدف "إسرائيل" بعقد اتفاقية يذعن فيها لبنان لمطالبها الأمنية والسياسية.
وكان الاحتلال "الإسرائيلي" للجنوب بكامله، سبباً طبيعياً لإطلاق مقاومات وطنية وإسلامية، كانت الاستمرارية فيها لصالح مقاومة حزب الله، ليس فقط لجدية الحزب وكم التضحيات التي قدمها، بل لأنه جذب جمهوراً واسعاً من شيعة كل المناطق، منذ الطلقة الأولى. وفيها قدم الشيعة وأهل الجنوب أغلى التضحيات لطرد العدو "الإسرائيلي" المحتل من أرض لبنان. في المقابل، كان التغيير البسيط في تركيبة النظام اللبناني في اتفاق الطائف، من نصيب غيرهم.
لكن حقد الذين يعتقدون أن لبنان صنع لأجلهم، ينصب على الشيعة، فمقاومتهم واجهت "الإسرائيلي" وحطمت أحلام الذين يعملون على التحالف معه. كما وضعت حداً لغرور المتعالين، الذين ما زالوا يرفضون القبول بالمساوات بين اللبنانيين، الذين يحق لهم أن يعيشوا مواطنين كاملي الحقوق، وليس رعايا في مزرعة طائفية، فشلت في احتضان سكانها، فهاموا اغتراباً في أصقاع العالم، منذ أن أنشئت متصرفية جبل لبنان، لأن أول ضحايا هذه المزرعة كان المسيحيون، الذين بات عددهم أقل من عشرين في المائة من اللبنانيين. ثم يأتيك من يضع اللوم كله على الشيعة وسلاح مقاومتهم، فبظنه أن هذا السلاح هو الذي يمنع "الإسرائيلي" من إعادة الاعتبار للبنان المسيحي، متناسياً أن حرب الجبل كشفت حتى للعميان، أن مصير المسيحيين في لبنان والمنطقة، هو آخر هم "الإسرائيلي" الذي تسبب بتهجير مسيحيي فلسطين وكل المنطقة، ولا يأبه لمصير مسيحيي لبنان.
الحملة على الشيعة: تزوير الوقائع ــ عدنان الساحلي
الخميس 19 حزيران , 2025 11:44 توقيت بيروت
أقلام الثبات

