خاص الثبات
في خضم التوترات السياسية المتصاعدة في لبنان، برزت تصريحات رئيس الحكومة نواف سلام الأخيرة، والتي وجه فيها رده لحزب الله مستخدمًا عبارة شعبية شديدة اللهجة: "لا تَزْنوا ولا تتصدّقوا!".
عبارة أثارت الجدل، لا بسبب مضمونها المباشر فحسب، بل بسبب ما تحمله من دلالات على انزلاق الخطاب السياسي والقانوني في البلاد إلى مستويات تعبيرية لا تليق بمواقع المسؤولية، ولا تعكس هيبة الشخصية القانونية التي يُفترض أن يمثلها سلام، بصفته قاضيًا سابقًا في محكمة العدل الدولية.
هذا الرد، الذي يمكن تأطيره ضمن المثل الشعبي الشهير: "ضربني وبكى، سبقني واشتكى"، يعكس بوضوح ما يمكن وصفه بمحاولة استباقية لتقمّص دور الضحية من قبل طرف مارس الإساءة في استخدام موقعه الحكومي عبر تطبيق الاجندة الأميركية، ثم بادر إلى الشكوى.
المثل الشعبي كأداة تشخيص سياسي
"ضربني وبكى، سبقني واشتكى" ليس مجرد تعبير دارج في الأحياء الشعبية أو المقاهي، بل هو تشخيص دقيق لسلوك متكرر في السياسة اللبنانية: اتهام الآخر بما يمارسه المتكلم نفسه. وهذه الطريقة ليست جديدة، بل تمثل أسلوبًا لطالما لجأت إليه بعض القوى في البلاد لتبرير سياساتها أو لتجنب المساءلة.
وعندما يستخدم نواف سلام مثل هذه العبارة، فهو لا يستعملها فقط للتعبير عن استيائه، بل يعكس مسارًا في الخطاب السياسي اللبناني يهرب من المنطق القانوني والمؤسساتي إلى المزايدة الشعبية، وهو ما يضع علامات استفهام جدية حول أهلية الخطاب الذي يتبناه من يطمح للعب دور محوري في مستقبل لبنان.
بين الحقيقة والاستعراض
إن النزول إلى مستوى العبارات "الشعبوية" ليس مجرد زلة لسان، بل هو خيار واعٍ لخوض معركة سياسية بأسلوب تعبوي، قائم على تصوير الخصم كجلاد ثم التباكي أمام الرأي العام. وهنا تتبدى معضلة خطيرة: عندما يصبح الاستعراض اللفظي بديلاً عن الموقف المبدئي، وعندما تتحول الشخصيات القضائية إلى لاعبين في سوق النكايات بدل أن يكونوا مرجعًا للاتزان القانوني والسياسي.
هل سقط القناع؟
"يومًا بعد آخر يظهر نواف سلام وجهه الحقيقي"، يقول خصومه. وإذا أخذنا تصريحاته الأخيرة نموذجًا، فإننا أمام حالة تطرح تساؤلات حول جدية مشروعه السياسي، وأهلية خطابه، وقدرته على تجسيد الدولة بمفهومها الرشيد، وليس بمزاج الشارع.
ففي زمن تتكاثر فيه الأزمات، من الانهيار الاقتصادي إلى الشلل الدستوري، يحتاج اللبنانيون إلى صوت عقل، لا صدى صراخ، وإلى من يُعلي لغة القانون، لا من يتقن فن الردح.
في الختام لبنان لا يحتاج إلى من "يبكي ويشتكي"، بل إلى من يتحمل المسؤولية ويصنع الفرق.