أقلام الثبات
الحادث الذي استهدف قبل أسبوع متحفاً يهودياً في العاصمة الأميركية واشنطن، وأدى الى مقتل إثنين من الدبلوماسيين "الإسرائيليين"، دفع بالرئيس الأميركي دونالد ترامب الى إبداء مخاوفه من ارتفاع نسبة "معاداة السامية" في بلاده، فيما سارع وزير الخارجية "الإسرائيلي" جدعون ساعر الى توجيه الاتهامات للدول الأوروبية التي تسعى إلى "التحريض على الكراهية".
حادثة في واشنطن، ما علاقة أوروبا بها كي يُكيل الوزير الصهيوني جدعون ساعر أحقاده للمسؤولين الأوروبيين؟ الجواب، أن أوروبا التي ضاقت ذرعاً من التعصب العرقي لدى اليهود عبر التاريخ، هي التي كانت أول مَن أضاء على حقيقتهم، ونفرت منهم وهجَّرتهم وارتكبت بهم الهولوكوست الألمانية المعروفة.
وبصرف النظر عن رأينا بالتسلسل الزمني للأحداث، والأزمات المرتبطة بالأمن القومي الألماني في الحقبة النازية، والأحداث التي أدت الى تلك المجزرة، فإن أحفاد مَن ارتُكبت بهم الهولوكوست في الغرب الأوروبي ينتقمون لهم في الشرق العربي عبر مئات المجازر منذ العام 1948.
حمل اليهود معهم من أوروبا كراهية الآخرين لهم، لأنهم يعتبرون أنفسهم من "العرق السامي" الذي يتَّسِم باشتراكه في الدم والسمات الجسميَّة، ويتَّهمون الآخرين منذ قرون بما بات متعارفاً عليه "معاداة السامية"، Anti- Semitism، كون اليهودي في نظر الأوروبيين، خصوصاً الألمان، يبقى يهودياً، حتى ولو تحوٌَل من اليهودية إلى المسيحية، وساد الاستياء الأوروبي الجامع من اليهود، وكان ما كان من اعتبار فلسطين الوطن البديل لهم وأرضاً للميعاد، بموجب وعد بلفور المشؤوم عام 1917، وتمَّ اختيار فلسطين تحديداً وطناً لهم بدلاً من أوغندا والأرجنتين نتيجة الهيمنة البريطانية على جزء من الشرق بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية.
وبداية "معاداة السامية" هي نقمة من المجتمعات الأوروبية على عنصرية اليهود، وأدت الى تهجيرهم، وتحولت إلى لعنة يحملها اليهود الصهاينة الذين أرادوا فلسطين أرضاً بديلة لهم عن أراضي الشتات، بعد سقوط مملكتيّ "داود وسليمان" و"حشمونائيم"، وهنا برز الانقسام اليهودي، بين مَن يعتبرون أن إقامة "دولة إسرائيل" عصيان لأوامر الله، كما تعتقد جماعات مثل "الحريديم"، وبين الجماعات الصهيونية التي تدَّعي أن جبل صهيون في القدس جزء من أرض الميعاد.
وإذا كانت أوروبا بكاملها قد ضاقت باليهود، فلماذا حصلت الهولوكوست تحديداً في ألمانيا؟ الإجابة بسيطة، أن الألمان في زمن الحكم النازي اعتبروا "العرق الآري" عرقاً أوروبياً متفوقاً، وأن اليهود وغيرهم من "العناصر غير الآرية" يمثلون تهديداً لهذا العرق، واستغلوا مفهوم التمييز العرقي لتبرير اضطهادهم لليهود والغجر والسلافيين وغيرهم، ما أدى إلى المجازر الجماعية التي حصلت قبل واقعة الهولوكوست، في زمن صراعات الأعراق.
إذاً، عند كل صراع في الفترات الزمنية المتوالية، يتجدد الغضب اليهودي على أوروبا، سواء من الذين هجروا القارة إلى فلسطين وهم الصهاينة، أو هاجروا إلى أميركا وأسسوا اللوبي الصهيوني الأميركي، أو حتى الذين بقوا في أوروبا ويحملون جنسيات بلدانها لكنهم لم يندمجوا في مجتمعاتها نتيجة عقدة اختلاف العرق.
وما أجج الصراع المستجد بين أوروبا واليهود الصهاينة الآن، هي المجازر التي تُرتكب بحق أبناء قطاع غزة، بحيث اشتعلت الشوارع الجماهيرية الأوروبية تنديداً بالعدوان الهمجي، وتقاطعت الجامعات الأوروبية مع الأميركية في اعتصامات التضامن مع الشعب الفلسطيني وباتت التحركات الشعبية ضاغطة أكثر من أي وقت في التاريخ المعاصر على الأنظمة الحاكمة.
باتت "معاداة السامية" معزوفة الدجل الصهيوني عند كل تظلُّم كاذب ولكن، لا ظلم في التاريخ المعاصر يفوق ما يرتكبه دعاة "العرق السامي" بحق الشعب الفلسطيني، وإدانتهم تأتي من عقر دارهم قبل أن تأتي من الآخرين، عندما لخَّص تاريخهم وفضح أكذوبة صهيونتهم و"أرض ميعادهم" المؤرخ اليهودي شلومو ساند عبر كتبه الثلاثة: “اختراع الشعب اليهودي” عام 2009، و “اختراع أرض إسرائيل” عام 2012، و” كيف لم أعد يهودياً” عام 2014، وأعلن فيه حيثيات قراره بإبطال يهوديته والتبرؤ من الصهيونية.