خاص الثبات
في الخامس والعشرين من أيار، تكتمل دائرة المعنى في الوجدان اللبناني، حيث يتقاطع الزمن مع الذاكرة، ويصير التاريخ حاضراً نابضاً في يوم الانتصار والتحرير. لكن رئيس الحكومة نواف سلام اختار أن يمرّ على هذه المحطة بصمتٍ مقصود، وكأن لا شيء يستحق الذكر في يومٍ هزّ أركان الاحتلال وهزمه من دون قيدٍ أو شرط.
غياب الإشارة إلى المقاومة لم يكن مجرد سهو بروتوكولي، بل موقف سياسي مقصود. سلام ليس رجلاً ساذجاً في السياسة أو في اللغة. هو دبلوماسي محنّك، شغل لسنوات مقعد لبنان في الأمم المتحدة، وكتب في القانون الدولي وحقوق الإنسان، ويُدرّس في المنابر الغربية مفاهيم السيادة والكرامة. يدرك تماماً أن المقاومة ليست مجرد رد فعل، بل حق مكفول في الشرعة الدولية، من الميثاق الأممي إلى اتفاقيات جنيف، ومن تجارب الشعوب إلى نضالات الأمم.
ومع ذلك، تجاهل نواف سلام ما يعرفه أكثر من غيره. لم يكن صمته عن المقاومة خوفاً من عتاب سفيرة أو انزعاج موفدٍ غربي، بل لأنه جزء من مشروع سياسي يتقاطع مع المسارات الجديدة في المنطقة، حيث تُعاد صياغة الخرائط تحت عنوان "الانفتاح" و"السلام الاقتصادي". لبنان، في هذا المشروع، يُراد له أن يكون هامشاً في نظام إقليمي تقوده تل أبيب، ويُطلب منه أن ينسى تاريخه ويكبح ذاكرته.
لا يمكن لرئيس حكومة لبنان أن يختزل هذه اللحظة التاريخية بمنطق الحياد الفارغ أو المناورة اللفظية. فالتاريخ ليس ورقة تُطوى، ولا حدثاً يُؤرشف في زاوية النسيان. إنه فعل متجدد، تُعيد كتابته الأجيال التي عرفت معنى الاحتلال، وتذوقت مرارة السجن، وخاضت حرب التحرير حجراً بيد، وعقيدةً في القلب.
الصمت عن المقاومة هو انحياز، وتغافل عن الحقائق الجوهرية التي رسمت هوية لبنان الحديثة. المقاومة ليست خياراً أيديولوجياً عابراً، بل كانت ولا تزال درعاً لهذا البلد أمام مشاريع التوسع والتهويد والضم. تجاهلها ليس إهمالاً، بل محاولة لطمس المعالم وتغيير الاتجاه.
من لا يرى في التحرير لحظة تأسيسية لكرامة الوطن، لا يمكنه أن يرسم مستقبلاً يحمي سيادة الدولة. ومن لا يذكر رجال الجنوب وصوتهم في ليل الأسر، لا يمكنه أن يكون وفياً لتضحيات شعبه.
ما يجري اليوم ليس فقط معركة على المفردات، بل صراع على جوهر الكيان: هل نبقى أحراراً أم نُقيد بمفاهيم "السلام" المفروضة؟ هل نُصالح قاتلنا تحت شعار الاستثمار؟ وهل نبدّل المقاومة بالتطبيع على مذبح المصالح؟
نواف سلام لم يخطئ في البيان فقط، بل في القراءة الأعمق لتاريخ شعبه. لكن ما لم يدركه بعد، هو أن هذا الشعب لا تُغريه اللغة الناعمة، ولا تخدعه الواجهات الدبلوماسية. لأن من كتب انتصار أيار، لا ينتظر تصريحاً رسمياً ليحتفل بتاريخه.