أقلام الثبات
نجحت أميركا في فرض إجراء الانتخابات البلدية، ضمن جدول المطالب التي طلبها "الحاكم الإداري الأميركي" لإقرار بعض القوانين والمراسيم وبناء المؤسسات الدستورية والإدارية، لبناء النظام السياسي والإداري والأمني الجديد في لبنان وفق المصلحة والرؤية الأميركية، استناداً لفرضية "وهمية" تقول بهزيمة المقاومة وانتصار التحالف الأميركي وإلزام المسؤولين اللبنانيين وتدريبهم على ضرورة إنجاز الاستحقاقات دون تسويف او مماطلة، ولو كان ذلك تحت القصف وعلى أنقاض البيوت المدمرة وصناديق الاقتراع المهجّرة وغير الآمنة.
شكّلت الانتخابات البلدية وقبلها رئاسة الجمهورية وتشكيل الحكومات، إدانة وإهانة للطبقة السياسية الحاكمة التي ماطلت وأجّلت الانتخابات أكثر من مرة، فانتخابات رئيس الجمهورية تأخرت سنتين، وتشكيل الحكومات يتأخر أكثر من سنة، وتأجيل الانتخابات البلدية ثلاث سنوات، ولم تكن هناك حربٌ أو تهديداتٌ أمنية او أي معوّقات وموانع إدارية، لكنّه "مرض" التمديد للرئاسات والبلديات وحكومات تصريف الأعمال الذي أصاب النظام السياسي والإداري في لبنان أكثر من خمسة عقود منذ الحرب الأهلية اللبنانية.
أظهرت الانتخابات البلدية ضعف الطبقة السياسية اللبنانية التي لا تعمل إلا بالضغط وتنفيذ الأوامر الخارجية، مهما كانت، سواء كانت بالعربية او الأجنبية (ماعدا الفارسية) وأظهرت عدم امتلاكها القرارَ الحر والمستقل.
أرادت أميركا هزيمة قوى المقاومة في الانتخابات البلدية بعد هزيمتها بانتخابات رئاسة الجمهورية والحكومة (انتخاب من لم ترشّحه)، ولو أنه تم حفظ ماء وجهها وفق معادلة "إن لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون"، لافتراضها أن الرأي العام الشيعي سينقلب على المقاومة، بسبب الخسائر التي أصابته بأكثر من 25 ألف شهيد وجريح وعشرات آلاف المنازل المدمّرة والقرى المدمّرة والممنوع بناؤها، إضافة إلى التهجير الذي أصاب الطائفة كلها ،مما يؤدي الى نفور وانفضاض الناس عن المقاومة، فيهزمونها في الانتخابات البلدية من باب الديمقراطية، وتستطيع أميركا إطباق الحصار المفروض عليها من الخارج والداخل وحتى ضمن الطائفة مما يسهّل عملية "نزع السلاح".
أرادت امريكا تحديد أحجام القوى السياسية في لبنان على المستوى الطائفي والسياسي، لتحديد القوى والشخصيات التي ستتعامل معها وتكليفها تنفيذ المشروع الأميركي الشامل في لبنان حتى لا تضطر ،للعمل ميدانيا لاجتثاث المقاومة واحتلال لبنان وإقرار التطبيع مع "إسرائيل".
لم تستطع أميركا تحقيق أهدافها كليّاً في لبنان (دون إغفال نجاحها في ملف الغاز ووقف النار)، خاصة فيما يتعلق بالمجتمع المقاوم على المستوى الأهلي او العسكري، فلا تزال الناس مع المقاومة وتدافع عنها بسلاح "الصوت" وتعلن أنها "منهم" وليست منبوذة او معزولة واستطاعت بهجومها الانتخابي المدني، سواء بالاقتراع او بالتزكية من صد الهجوم الأميركي والانتصار عليه.
لم تستطع القوى المتحالفة مع أميركا من تضخيم وجودها بالمقارنة مع قوى المقاومة وتبين ان "ظلها" السياسي والإعلامي أكبر بكثير من حضورها الميداني، مما أصاب التحالف الأميركي - الخليجي بخيبة امل حتى داخل الطائفة "السنيّة"، التي أعلنت اعتراضها الصامت على عزل الرئيس الحريري واجتثاثها “تيار المستقبل" ولم تستطع الشخصيات والقوى السياسية السنية الحديثة العهد او المصنّعة او التاريخية من وراثة "الحريرية السياسية" بعد سنوات على تغييبها وهذا ما أظهرته انتخابات طرابلس وبيروت خصوصاً.
ربحت قوى المقاومة الانتخابات البلدية ،"سياسياً، لكنها أمام تحدٍّ مستقبلي وكبير، لربحها إنمائياً وعدم بقائها في دائرة الشلل والتهميش ،كما كانت معظم البلديات في السنوات الماضية، فلم تقم بأي عمل إنمائي وحتى لا تكون احتفالات النصر بالفوز احتفالات ظرفية، تختفي مع أول استحقاق إنمائي او خدماتي ، للقرى وعدم المراهنة على مبايعة الناس للمقاومة وإهمال حاجاتها ومقوّمات العيش الكريم، لأن الناس كانت أكثر وعياً ومسؤولية وإيثاراً وأغمضت عيونها عن كل الخسائر و"تحدّق" بالأخطار التي تتهدّد المقاومة ومن بعدها أهل المقاومة، فعملت وفق "فقه الأولويات" الذي يقضي بضرورة تقديم الدفاع عن المقاومة.
ينتظر أهلنا الشرفاء من قوى المقاومة مراجعة الأداء ومحاسبة المقصّرين، وعدم ترك البلديات بعد الفوز بها سياسياً، ووجوب الانتباه الى حالات الاعتراض الهادئة والمؤدّبة ضد لوائح "الثنائي"، والتي يمكن ان تكون في حال تجميعها على مستوى المحافظة في الانتخابات النيابية ،قادرة على تأمين "حاصل انتخابي" يفسح المجال لاختراق اللوائح القادمة، خصوصاً إذا أُعيد ترشيح بعض الفاسدين او المقصّرين من “النواب” الدائمين، ولا تتهموا أهل المقاومة بطعن المقاومة إذا لم ينتخبوا الفاسدين.
الانتخابات البلدية... بين تحديد الأحجام وتحجيم المقاومة ــ د. نسيب حطيط
الإثنين 26 أيار , 2025 11:24 توقيت بيروت
أقلام الثبات

