خاص الثبات
في خطوة لم تعد مفاجئة بقدر ما هي فاضحة، تخصّص السعودية مزيداً من المنصات الإعلامية والقنوات والصفحات الإلكترونية موجهة خصيصاً للبنان، وكأن البلاد بحاجة إلى مزيد من التوتر والتأجيج بدل أن تُمنح فرصة للملمة جراحها.
هذا الانخراط الإعلامي الكثيف ليس عفوياً، ولا بريئاً، بل هو امتداد مباشر لسياسة آل سعود في التلاعب بمصائر الشعوب، تحت شعارات كاذبة كالدعم والتضامن، بينما الحقيقة أن كل خطوة تحمل بين طياتها مشروعاً سلطوياً خبيثاً.
لا يخفى على أحد أن جزءاً من هذا الحضور المكثف في الشأن اللبناني يرتبط بإعادة ترميم النفوذ السعودي في بيروت، بعد سلسلة من الإخفاقات السياسية وتراجع الهيمنة لمصلحة قوى محلية وإقليمية أكثر تأثيراً وصدقاً في تعاملها مع الواقع اللبناني.
فالسعودية التي طالما حاولت التحكم بالقرار اللبناني عبر أدوات داخلية، عادت اليوم بأسلوب جديد: الحصار الإعلامي. منصات ناعمة بظاهرها، لكنها مسمومة في مضمونها، تسعى إلى شيطنة خصوم الرياض، وتشويه المقاومة، وتزييف الوقائع بما يخدم مصالح البلاط الملكي لا مصلحة الشعب اللبناني.
لكن البعد الأخطر من كل ذلك يكمن في النوايا الداخلية للسلطة السعودية. فالنظام القائم في الرياض، الخالي من أبسط مظاهر الحياة السياسية، يسعى دائماً إلى تصدير أزماته، وتوجيه أنظار شعبه نحو الخارج، ليتجنّب أي حديث عن القمع، وغياب الحريات، والفساد المستشري في الدولة الريعية التي تفتقر إلى أدنى مقومات المشاركة الشعبية.
لبنان في هذا السياق ليس سوى منصة للتنفيس الداخلي؛ ملعب مكشوف تستغله السعودية لتُشبع إعلامها بمواد "ثورية" وهمية لا تجرؤ على ممارستها داخل مملكتها.
والمفارقة أن المملكة، التي لم تعرف انتخابات أو برلمانات حقيقية، باتت فجأة حريصة على الديمقراطية في لبنان، وعلى "سيادة قراره"! أي نفاق هذا؟! إنها سياسة قائمة على مزيج من الوصاية والابتزاز، تتغطى بحُلل العروبة والمصلحة المشتركة، بينما تعمل في الخفاء والعلن لتمزيق النسيج الوطني اللبناني، وتغذية الانقسام، خدمة لأجندة لا علاقة لها بالمصلحة اللبنانية.
لقد بات واضحاً أن آل سعود لا يتوانون عن تحويل أزمات الدول الأخرى إلى فرص استثمار سياسي وإعلامي، حتى لو كانت البلاد تحترق. لبنان، المنهك أصلاً من الانهيار الاقتصادي والسياسي، لا يحتاج إلى المزيد من الحطب في نيرانه، ولا إلى وعاظ على هيئة ملوك. بل يحتاج إلى من يحترم استقلاله، ويكفّ عن العبث بمصيره.
إن أخطر ما في التدخل السعودي، أنه لا يأتي بحسن نية، بل كجزء من مشروع أكبر لتشكيل وعي شعبي مشوَّه، لا يرى في المقاومة إلا "عقبة"، ولا في السيادة إلا "وجهة نظر"، ويُعاد تدويره إعلامياً بشكل يجعل من الضحية جلاداً، ومن الجلاد داعماً!
في النهاية، على اللبنانيين أن يُدركوا أن معركة الكرامة لا تُخاض فقط بالسلاح، بل بالكلمة، والموقف، ومواجهة أولئك الذين يحاولون اللعب على أوتار آلامنا تحت عنوان "المساعدة". فالتاريخ علمنا أن من لا يملك حرية على أرضه، لن يمنحها لغيره.