أقلام الثبات
اعتاد اللبنانيون القاء لائمة أزماتهم وحروبهم على الآخرين. ويبرع كثير منهم في تسمية الكوارث، التي حدثت بفعل أيديهم ولعدم تقديرهم للأمور، بأنها حروب الآخرين على أرضهم. لكن الواقع غير ذلك وها هو لبنان يستعيد كثيراً من أجواء ومقدمات الحروب السابقة، التي كانت أساساً بفعل مغامرات قادة وزعماء لبنانيين، قبل أن تكون نتيجة تدخل خارجي، فذلك التدخل يستغل الفرصة ليحقق أهدافه ومصالحه، التي ما كانت لتتحقق لولا رغبة وتعاون بعض اللبنانيين، الذين يطمعون بالاستفادة من التدخل الخارجي، أملا في وصولهم إلى منصب متقدم، أو تعزيزاً لدور محوري، او إيفاء لثمن تلقوه.
ولم تكن حرب السنتين، التي سميت بذلك مجازاً، لأنها بدأت في 13 نيسان 1975 ولم تنته فصولها إلا باتفاق الطائف عام 1989، إلا نموذجأ لحروب صنع أسبابها لبنانيون، طامحون لنيل رضى إقليمي يساعدهم في تحقيق حلمهم الرئاسي. فهي جاءت بعدما قام قائد الجيش الأسبق إميل البستاني، لغايات استرآسية، بتكليف من الرئيس حينها شارل الحلو، بتقديم الجنوب للمقاومة الفلسطينية (اتفاق القاهرة)، لتقاتل منه العدو "الإسرائيلي"، علماً أن السلطات اللبنانية كانت تعامت وتجاهلت من العام 1948 احتلال العدو لأراض وقرى لبنانية، تهجّر أهلها منها. ولم يأبه رافعوا شعارات السيادة إلى أن هؤلاء يحملون الهوية اللبنانية.
فكان أن قام مسترئس آخر، في وقت لاحق، بإعلان "حرب تحرير لبنان من الغرباء"، عام 1975، ليدخل على بساط هذا الشعار وعلى ظهر دبابات العدو "الإسرائيلي"، إلى قصر بعبدا في اجتياح العام 1982ا. علماً أن الوجود الفلسطيني في لبنان، هو نتيجة العدوان الغربي-الصهيوني على فلسطين، أما دور "أبطال" الحرب على الغرباء، فكان الترحيب باللاجئين الفلسطينيين عند نكبتهم، ليس حباً بهم، بل طمعاً بأموالهم التي حملوها معهم، فأبو المصارف اللبنانية، يوسف بيدس، فلسطيني وغيره كثير من كبار الأثرياء في لبنان.
منذ ذلك الوقت، بكل وقاحة، يخرج من ينعت الصراعات اللبنانية بانها حروب الاخرين على أرضنا. رافضاً أن يحمل اللبنانيون وفي مقدمهم الجنوبيون السلاح، ليدافعوا عن ارضهم وكرامتهم وعن أنفسهم وعوائلهم، في وجه العدوانية "الإسرائيلية" التوسعية، معتبراً ذلك حروب آخرين على أرضنا. وكأن ابن الجنوب ومن يقف معه لقتال العدو، غرباء وليسوا لبنانيين. أو أن الأرض الجنوبية التي يحتلها العدو ليست لبنانية.
كذلك، كيف تكون انتفاضة اللبنانيين عام 1958، ضد قرار كميل شمعون بالانضمام إلى حلف بغداد، حروب آخرين، لأن المسبب لبناني في تبعيته وخضوعه للمشاريع الأميركية، التي كانت تسعى لتشكيل جبهة تحاصر الإتحاد السوفياتي السابق. وهذا يتكرر حالياً، في هيمنة الولايات المتحدة على لبنان، لتجعل منه قاعدة عملياتية تدير منها نفوذها ووجودها العسكري والسياسي في المنطقة، عبر بنائها قاعدة عسكرية ضخمة، تسميها سفارة في عوكر اللبنانية.
والواقع أن اسباب الحروب اللبنانية هي ذاتها تتكرر، كل عقد أو أكثر؛ وكلما حدث تطور أو تغيير في توازنات وتحالفات المنطقة، المرتبطة بمشاريع دول الهيمنة العالمية، فيتحرك العامل الداخلي اللبناني ليستفيد من هذا الاهتزاز، مما يشعل نار الفتنة والحرب الداخلية. وهذا ما نشاهده حالياً من محاولة استفادة بعض الجهات الداخلية من الحرب التدميرية الأميركية - "الإسرائيلية"، المغطاة عربياً، ضد المقاومة في لبنان وضد بيئتها الصامدة والمضحية. وقد شاهدنا مثيل ذلك، من القوى ذاتها، عندما استدعت جيش العدو الصهيوني ليوسع اجتياحه للبنان عام 1982، لينصب تابعاً له رئيساً على لبنان. وكذلك، قامت القوى ذاتها، بدعوة الجيش السوري للدخول إلى لبنان عام 1976، لينقذها من هزيمة أصابتها في الحرب التي أشعلتها هي، ثم عادت لتصف ذلك الجيش بأنه جيش احتلال.
وتلعب تركيبة النظام ووظيفته وتركيبته الاجتماعية والاقتصادية، التي انشئت من قبل الاستعمار الفرنسي، دوراً مفصلياً في إشعال الحروب في لبنان. ولنتذكر أن حقوق العمال، مثل إقرار حد أدنى للأجور والضمان الاجتماعي، لم تتحقق إلا بعد سفك السلطات اللبنانية دماء العمال الذين تحركوا وطالبوا بهذه الحقوق. والأمر نفسه مع الطلاب، الذين قمعوا بشدة مرات ومرات، قبل قبول السلطات إنشاء جامعة وطنية تعلم أبناء الفقراء، حتى لا يبقى العلم لأبناء الأثرياء، في جامعات السفارات والإرساليات الأجنبية.
ولنذكر أن تحقيق هذه الإنجازات وغيرها، مع استقواء القوى الشعبية اللبنانية بوجود المقاومة الفلسطينية، كان أحد أسباب إشعال "حرب تحرير لبنان من الغرباء"، فالدولة العميقة شعرت بالخطر على النظام وعلى مصالحها، فاستعدت للحرب وأشعلتها، محاولة حسم الصراع لصالحها، لكن هذا الصراع ما يزال مشتعلا، والخلاف على توصيف العدو "الإسرائيلي" والموقف منه؛ وكذلك الخلاف على المحاصصة الطائفية في بلدية بيروت حالياً، نموذجان عن مشكلة النظام الطائفي القائم، الذي يصنع الفساد ويحمبه ويوجد أزمة فقر وجوع؛ ويسرق اموال الناس المودعة في المصارف، مما سيسبب حروباً وازمات، فهذا النظام يولد المشاكل والأزمات ويصنع الحروب.
