أقلام الثبات
قرّرت أميركا بعد نجاحها في إسقاط النظام، سحب نصف قواتها من سوريا، والبقاء بشكل رمزي ، مما طرح أسئلة حول الأسباب والأهداف، خصوصاً أن قرارها يأتي خارج سياق استراتيجيتها التي تعتمد على نشر القواعد في العالم، وفي منطقه الشرق الأوسط خصوصاً، ومن جغرافيا حسّاسة تتوسط ثلاث دول (العراق وسوريا والأردن)، واللافت في هذا الانسحاب أنه يأتي قبل تثبيت الدولة المركزية الجديدة في سوريا، والتي لم تعترف بها أميركا رسمياً، مع انها الراعية والآمرة، بهدف إبقاء هذه السلطة تحت الضغط والحصار والابتزاز، ولرفع المسؤولية عما سترتكبه هذه السلطة من مجازر ضد الأقليات، والتي تتنقل من الساحل الى السويداء والجنوب، وأخيراً في "جرمانا" قرب العاصمة السورية!
لم تنته الحرب الأميركية - "الإسرائيلية" على سوريا، بل بدأت مرحلتها الثالثة؛ بعد مرحلتي إشعال الحرب عام 2011 والمرحلة الثانية بإسقاط الرئيس الأسد عام 2024، والآن أشعلت أميركا مرحلة الفوضى والحرب الأهلية، لتقسيم وتقاسم سوريا بين سوريا وتركيا وأميركا، وربما روسيا، ويبدو ان أميركا تتجه لاستنساخ تجربة ليبيا والسودان، حيث لم تنته الحرب او الثورة بعد إسقاط وقتل معمر القذافي منذ 14 عاما، وتعيش ليبيا حرباً أهلية دائمة بقيادة دول خارجية، وتتعرّض للنهب المنظّم لثرواتها، ولا بشائر بحلول تضمن وحدة ليبيا، وكذلك في السودان، وبعد اسقاط الرئيس عمر البشير اشتعلت الحرب الأهلية في السودان بعد تقسيمه بين الجنوب المسيحي والشمال المسلم.
والسؤال الذي يطرحه السوريون؛ ضحايا المشروع الأميركي - "الإسرائيلي" - العربي منذ 14 عاماً؛ عند بدء الثورة السورية التي تعتمد الآن على "الانكشارية التكفيرية"، التي تتنقل ما بين الساحل والسويداء والشمال عند الأكراد وفق ما يحتاجه المشروع الأميركي لحفر الخنادق بين الطوائف والمناطق وزعزعة وحدة الشعب، مع محاولة تفكيك الأطر الحزبية والدينية التي تجمع الشعب السوري، فبعد إسقاط "حزب البعث" الحاكم، كتنظيم وعقيدة حزبية ورابطة بين شرائح الشعب السوري، بدأت أميركا بتفكيك العقيدة الدينية "للمسلمين السنّة" في سوريا بإسقاط هويتهم الدينية وترهيب وقتل وتحييد علماء المذاهب السنية الأربعة المعروفين، بالاعتدال والتعايش مع بقية الطوائف والمذاهب لصالح "المذهب التكفيري" المعاصر والمهجّن أميركياً في نسخته المتمايزة عن نسخة الوهابية القديمة بعد فشل محاولة "الإخوان الوهابية" بغزو دمشق عام 1818، وبعد فشل "الإخوان المسلمين" في ثمانينات القرن الماضي، نجحت المحاولة الثالثة "بالانكشارية التكفيرية" بقيادة تركيا، وذلك لتضعيف الإسلام الأصيل وتفكيكه بالقوة والحروب كمخاض إجباري، سَتُسفَك فيه الكثير من الدماء لولادة "الديانة الإبراهيمية" التي ستفكّك الإسلام كرابطة وعقيدة لشعوب المنطقة، كما تم تفكيك الرابطة القومية العربية ومؤسساتها (جامعة الدول العربية وملحقاتها) وتغيير الهوية الدينية للمنطقة (مهد الرسالات السماوية) لتثبيت مشروع التغيير الأميركي - "الإسرائيلي" لمعالم المنطقة على مستوى الجغرافيا والكيانات والديموغرافيا؛ وفق الانتماء الديني او القومي.
تمارس أميركا عمليه خداعٍ وتضليل، للشعوب بالإعلان أن هدفها إسقاط الأنظمة الظالمة والحكام الظالمون، لكن الحقيقة ان الهدف الأميركي هو إسقاط الدول وتمزيق وتهجير الشعوب ونهب ثرواتها الخاصة والعامة وإحراق تاريخها والعَبث بحاضرها وتقرير مستقبلها.
تدفع الشعوب ثمن الشراكة في إسقاط حكامها وأنظمتها، وتعيش لحظة فرحٍ تستمر ساعات او أيام بعد سقوط الحاكم والنظام، ثم تدخل في دوامة عنف جديدة أسوأ من التي سبقتها، حيث لا دولة تشكل مرجعية للإدارة والشكوى ولا جيش ولا شرطة ولا مركزية حكم، وهذا ما تعيشه سوريا بما يعرف "نظام الأمراء" المتعدّدي الجنسيات والجهات الخارجية المموّلة والآمرة.
نجحت أميركا بتنفيذ مشروعها، بوسائل متعدّدة، فتقصف في اليمن وتُشعل الفوضى في سوريا وتشترك في أبادة غزه وتستمر بحصار المقاومة في لبنان وتفاوض في إيران وتجبي الجزية من الخليج.
أما نحن العرب والمسلمين لا زلنا نفرح بهزيمة وموت بعضنا، ونقتل بعضنا حتى تهزمنا أميركا و"إسرائيل" جميعاً (ونحن الأغيار بالنسبة لهم سواء كنا مقاومين او عملاء) دون أن يضمن عملاء أميركا حماية أنفسهم، وهي التي تركت عملائها في فيتنام والعراق وشاه إيران، وقتلت صدام والقذافي، كما تركت "إسرائيل" عملاءها على بوابة فاطمة في أيار عام 2000، بعد أكثر من 20 عاماً من خدمتها وحمايتها.
هل يستيقظ العرب والمسلمون، شعوباً وانظمة وحكاماً، لإنقاذ ما تبقى من أمة تغتصبها أميركا و"إسرائيل" كل يوم، ثم يسبيها التكفيريون... وهي تنزف؟
الانسحاب الأميركي لإشعال الفوضى في سوريا _ د. نسيب حطيط
الأربعاء 30 نيسان , 2025 11:33 توقيت بيروت
أقلام الثبات

