أقلام الثبات
الإعلاميون السوريون خارج سورية عارضوا نظام الرئيس بشار الأسد، وهللوا وطبلوا وزمروا لسقوطه، ويعيشون الآن صدمة الخيبة.
أبرز ما يُجمِعُون عليه أنهم لا يفهمون كيفية مقاربة الرئيس أحمد الشرع للوضع الداخلي المُلتهِب طائفياً، والواقع الإقليمي بين فكَّي التركي و"الإسرائيلي"، والموقع الدولي للدولة السورية الجديدة، التي يبدو أنها لن تنمو هيكلياً وسط خارطة ممزقة، لا يمتلك السوريون أوراق جمع شمالها بجنوبها، من خلال وسط مقطوع عن الواقع وساحل مكلوم، وبالتالي تشكيك الجميع بإمكانية استمرار سورية في وضعية مكانك راوح، ليس حرصاً على دولة في مرحلة انتقالية، بل خوفاً على وطن من عقلية مَن تربّوا في مدارس الحدود المفتوحة على الغزوات.
ولعل أكثر ما يقلق المعارضين القدماء/الجدد في سورية، ليس فقط العدوان "الإسرائيلي" الذين يعتبرونه مؤقتاً، بل التمدد التركي الذي هو نتيجة "الثقافة" التي تجمع حزب العدالة والتنمية في تركيا بهيئة تحرير الشام، التي وصلت إلى الحكم في سورية منفردة دون سائر التشكيلات العسكرية والسياسية المعارضة للرئيس الأسد، ولعل الدور الرئيسي في تدمير سورية وإسقاط الرئيس الأسد يعود لتركيا، التي ورَّدت الى سورية عشرات آلاف الإرهابيين مع معدَّاتهم وعتادهم منذ بداية "الثورة" عام 2011، دون إسقاط دور بعض الدول العربية، وفي مقدمتها دول الخليج، وكذلك أميركا في تقويض أركان الدولة السورية.
المعارضة السورية في الخارج، التي صدمتها سياسة هيئة تحرير الشام بعد إسقاط نظام الرئيس الأسد واستلامها مقاليد السلطة، قد يكون أبرز وجوهها اليوم، الدكتور هيثم المناع، مع مجموعة من الشخصيات السورية في مجلس سوريا الديمقراطي (مسد) المُعارض لهيئة تحرير الشام وقوات سورية الديمقراطية (قسد)، وهذا المجلس له حيثيته الشعبية على امتداد الخارطة السورية من الشمال الشرقي حيث الكثافة الكردية إلى الجنوب، حيث الكثافة الدرزية، وخطاب الاعتدال الهادئ الذي يتَّصف به الدكتور هيثم مناع ومعه بعض الشخصيات السورية المرموقة، يعكس تركيبة الشارع السوري الوطنية، لا بل حقيقة إسلام بلاد الشام.
على المستوى الإقليمي، استطاع "التحالف" التركي - "الإسرائيلي"، لا بل الصهيوني، الإيحاء بأن حرباً قد تنشأ بين الفريقين على الأرض السورية، وأن "إسرائيل" لديها مخاوف من أية قواعد تركية على الأراضي السورية، خصوصاً قاعدة T4 الواقعة وسط سورية؛ بين تدمر وحمص، وهذا ما "يبرر" تكرار الغارات الصهيونية على هذه القاعدة، في سياق تدمير كافة القدرات التي كانت لدى الجيش السوري، وفي نفس الوقت، القيام باستعراض القوة المتبادل بين الصهاينة والأتراك، وسط صمت عربي مريب، كالعادة، إن لم نقُل مباركة عربية لتدمير سورية.
على المستوى الدولي، بدت الفرملة في الاندفاعة الغربية عامة، والأوروبية خاصة، واضحة بشكل لافت بعد مجازر الساحل السوري، ومما قاله مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن من لندن، إن المجازر التي ارتُكبت بحق العلويين كان يُمكن أن تحصل للأكراد لولا حماية أميركا لهم، وللدروز لولا المحاذير الإقليمية، وللمسيحيين لولا الخوف من استعداء الغرب.
من جهة أخرى، نقل رامي عبد الرحمن خلال الساعات الماضية خبراً أميركياً من العيار الثقيل، مفاده أن واشنطن أبلغت البعثة السورية في نيويورك، مذكَّرة تمّ تسليمها من خلال الأمم المتحدة، تنصُّ على تغيير وضعها القانوني من بعثة دائمة لدولة عضو لدى الأمم المتحدة إلى بعثة لحكومة غير معترف بها من قبل الولايات المتحدة.
وفي الوقت الذي تواترت فيه الأنباء عن قبول تركي بمبدأ حكم ذاتي للأكراد في شمال شرق سورية، واندماج فصائل "قسد" ضمن الجيش السوري الجديد تحت لواء وزارة الدفاع السورية، مقابل تسليم حزب العمال الكردستاني سلاحه وحلّ نفسه بطلب من زعيمه الروحي عبد الله أوجلان، المسجون في تركيا، فإن "الدولة الكردية" هي الأولى التي سترتسم على خارطة الوطن السوري ضمن إطار حكم ذاتي أو لا مركزية إدارية، تليها الدولة الدرزية في المحافظات الجنوبية الثلاث، القنيطرة ودرعا والسويداء تحمل الصفة نفسها من الحكم الذاتي واللامركزية، تبقى مسألة العلويين في الساحل هي العالقة بانتظار ما يُحكى عن حماية روسية لهم في حال نجاح المفاوضات مع حكومة الشرع حول بقاء القواعد الروسية في الساحل السوري، لكن على الرئيس الشرع الاستعداد لاحتمال قيام حكم ذاتي للعلويين، كي لا تتكرر معهم مجازر "الجيش الوطني" الذي أحرج تركيا في مجازره هناك، ووجدت نفسها مُلزمة بإعلان حلّه ووقف دفع الرواتب لعناصره.
هل سيبقى الشرع قائداً للوطن السوري على أربع دويلات؛ كردية في الشمال وسنية في الوسط ودرزية في الجنوب وشبه دويلة للعلويين في الساحل؟ هذه احتمالية قائمة، لكن يستحيل تطبيق حكم اللون الواحد من فكر مدرسة "النصرة" على سورية، من منظور الشارع السني السوري قبل منظور الأقليات فيها، وما على الشرع سوى إعادة خلط أوراق حكومته الحالية، وتصحيح التمثيل السني بمسلمين من مدرسة بلاد الشام بدلاً من مدرسة النصرة وتوجهاتها، والبدء بتأسيس "جيش لا مركزي" يراعي التنوع الطائفي للدويلات، على قاعدة كل دويلة تحمي حدودها، وإلا فإن الشرع سيخسر ما يعتقده مشروعياً له، والدول العربية ومعها الغرب بانتظار هكذا خطوات تأتي ببديل عن تركيبته الحالية، وإلا فإن سورية إلى مزيد من الدماء لإسقاط الشرع وشرعيته.