أقلام الثبات
لطالما راهن رافضو التنازلات المذلة والمتمسكون بالحقوق العربية الطبيعية، خلال العقود السابقة، على تطرف قادة العدو الصهيوني، وليس على وطنية الحكام العرب، لمواجهة حالة التردي الرسمي العربي. فهذا العدو، منذ أن أوجدت بريطانيا والغرب كيانه الدخيل فوق أرض فلسطين، لا ينفكّ يزداد تطرفًا، ويصعّد من فعله وخطابه العدواني والتوسعي، في حين يعزف الحكام العرب لحن الخضوع والقبول بالأمر الواقع، ولو اقتضى ذلك التفريط بفلسطين والرضوخ للأطماع الصهيونية فيما يجاور فلسطين من دول وأراضٍ وخيرات.
ولم تختلف القمة العربية الأخيرة، التي عُقدت في مصر، عن سابقاتها، إلّا إذا استثنينا مرحلة قيادة جمال عبد الناصر لمصر والعرب، التي أصرت، وهي الخارجة من هزيمة حزيران عام 1967، على رفع "اللاآت الثلاث" المشهورة: لا صلح مع "إسرائيل"، ولا اعتراف بها، ولا تفريط بحقوق الشعب الفلسطيني في وطنه فلسطين.
لكن اللافت أن النظام الرسمي العربي، الذي أعقب مرحلةَ جمال عبد الناصر وتقوده المملكة السعودية، ما يزال يكرر معزوفة المبادرات السلمية، في خطب حكوماته وفي بيانات قممه، في حين تخطّى العدو "الإسرائيلي" مرحلة طلب الاعتراف بكيانه، إذ بات عمليًا في طور تثبيت واقع "إسرائيل الكبرى" و"إسرائيل العظمى"، المحددة في أساطير الصهيونية بأنها تمتد ما بين نهري الفرات والنيل.
هذا الموقف الرسمي المتآمر هو الذي يشجع العدو "الإسرائيلي"، ومن خلفه الولايات المتحدة والدول الغربية، على انتهاج سياساتهم العدوانية تجاه فلسطين ولبنان، وتجاه كل من يدعم الحق الفلسطيني ويتصدى للغزوة التوسعية الصهيونية. لكن ذلك جزء من صورة الواقع القائم، إذ إن غياب القوى الشعبية الحية عن إقامة توازن من الضغط الشعبي تجاه التفريط الرسمي العربي، هو ما يجعل الانهيار القائم بلا قعر حتى الآن. فما كان يُعرف بالأحزاب الوطنية والعروبية واليسارية، بات مجرد لافتات وشعارات، لا فعل لها ولا تأثير، بعدما مارست دورًا مقاومًا في وجه الهيمنة الأميركية والغربية، وفي وجه تخاذل وتبعية الأنظمة القائمة.
فبعض تلك القوى استوعبته الموجات المذهبية والطائفية، التي اجتاحت المنطقة إثر حروب أفغانستان، والبعض الآخر زحف خلف الأثرياء ورجال الأعمال بغية تحصيل ثروة موعودة، وبعضها وصل إلى سدة الحكم في بلاده وفشل في تنفيذ مشروعه وفي تطبيق شعاراته، وآخرون اعتبروا أن الانحناء للعاصفة طريق الخلاص، خصوصًا بعد سلسلة الانهيارات التي بدأت برحيل جمال عبد الناصر وانقلاب أنور السادات، ثم تفكك الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، وصولًا إلى مؤامرة "الربيع العربي"، التي فتحت أبواب عواصم وبلدان عربية أمام عودة الاحتلال الغربي المباشر، إذ تولّت قوى تدّعي الإسلام والإيمان دورَ "سجادة شعبية" استقبلت ومرت من فوقها قوى الاحتلال والهيمنة.
ولبنان، بحكمه الجديد، أعلن بوضوح انتماءه إلى هذا النظام الرسمي العربي، بكل خيباته وبتبعيته لأميركا والغرب، ورفضه لفكرة المقاومة من أساسها، لمواجهة الخطر "الإسرائيلي"، الذي ينفذ، في ظل الوجود الرسمي اللبناني، ما عجز عنه في ظل وجود المقاومة على خط الحدود الأول في الجنوب.
وما نعيشه كلبنانيين ونعاني منه، هو استمرار ومواصلة تنفيذ الخطة الأميركية - السعودية المعروفة، الرامية إلى ضمّ لبنان إلى طابور المطبعين العرب مع العدو "الإسرائيلي"، من أنظمة الخيانة التي فرطت بالحقوق الوطنية والقومية، وبالكرامة الإنسانية، وبكل ما يمتّ إلى المبادئ السامية التي تفتخر بها الشعوب.
أما الحديث الرسمي اللبناني عن العروبة والحضن العربي، فهو تكرار لما شهده لبنان في عهد الرئيس كميل شمعون، فشمعون كان "فتى العروبة الأغر"، لكنها كانت عروبة التبعية لأميركا والعمل في خدمتها، من خلال استدعائه قوات "المارينز" ومحاولته الانضمام إلى حلف بغداد، في ذلك الوقت، الذي كان يضمّ إيران الشاه (نعم، إيران) ومملكة العراق والنظام التركي، الذي تبدّلت هويته من دون أن تتبدّل سياساته، فهو كان وما يزال عضوًا في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، في مقابل عداء العهد الشمعوني لعروبة التحرر والتقدم والوحدة، التي مثلتها مصر الناصرية في ذلك الوقت.
وعلى خطى عهد شمعون، ها هو الحكم اللبناني الجديد يستجدي ويبخّر ويعلن خضوعه وتبعيته لحكم آل سعود، الذي لولا عملية أبطال غزة "طوفان الأقصى"، لكان تطبيعهم مع العدو "الإسرائيلي" قد قطع أشواطًا واسعة من العلنية والتفاهمات المعقودة، التي لم يُبذل أي جهد لإخفائها.
ويأتي مشروع القانون الأميركي الجديد (قانون بيجر) ليؤكد أن الأميركي يريد حسم سيطرته وهيمنته على لبنان، غير مكتفٍ بما حققه على صعيد إيصاله المحسوبين عليه إلى سدة الحكم. فالقانون المذكور سيفرض على لبنان قطع دابر كل ما له علاقة بالمقاومة، بما في ذلك تمثيلها النيابي، مما سيجعله محمية "إسرائيلية"، وهو ما سيستدعي، بحكم طبيعة الشعوب، ظهور مقاومة فعلية وحقيقية في لبنان لمواجهة هذا الاحتلال الفعلي الأميركي للبنان. قد تكون مقاومة مضافة إلى المقاومة الموجودة، وقد تكون بديلًا عنها، إذا رضيت وخضعت للمشيئة الأميركية و"الإسرائيلية" والسعودية، وسلمت سلاحها للجيش اللبناني، الذي لن يستفيد منه، بل سيقوم بتدميره بناءً على الأوامر الأميركية، وهو ما يحصل حاليًا.
لذلك، بات السؤال مُلحًّا: أين تلك القوى الوطنية؟ فالأميركي يعزز هيمنته على المنطقة، مجيرًا كل تكنولوجيته الحربية لصالح الكيان الصهيوني، فيما هو ممسك بلجام أنظمة الخيانة والتطبيع والاستسلام… أين المعادون للتبعية؟ وأين الذين طالما نظّروا للعداء ضد الرأسمالية الجشعة والمتوحشة؟ وأين الذين طالما حلموا بتوحيد المنطقة تحت شعارات قومية أو دينية؟ وهذا لا يمكن أن يتم إلا بمواجهة قوى الهيمنة، التي تنهب خيرات العرب وتنصّب أتباعها حكامًا ونواطير على تلك الخيرات؟ بل أين الوطنيون اللاعقائديون، الذين يرفعون شعارات الحرية والاستقلال والسيادة الوطنية؟
إنه دور يبحث عن بطل... واللبنانيون لن يتركوا الساحة خالية للغزاة والمحتلين.