أقلام الثبات
انضم الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش إلى مسؤولين لبنانيين ودوليين في المطالبة "بحصر السلاح في يد الجيش اللبناني"، مؤكداً [أن على "إسرائيل" الانسحاب من جنوب لبنان وفقاً للجدول المقرر].
هذا المطلب طبيعي في ظروف طبيعية وفي بلد تختلف أحواله ونظامه عن حال ونظام لبنان، لكن لا المسؤولين اللبنانيين ولا "الأوصياء" الإقليميين والدوليين يدرسون الواقع في إطلاق كلامهم، بل هذا الكلام يطلق على عواهنه، لأن من المسلم به لدى معظم اللبنانيين، أن أكثر أطراف النظام السياسي الطائفي القائم يتحسسون من وجود جيش لبناني قوي، لأن ذلك يناقض فكرة "الوطن المزرعة" التي يعيثون فيها فساداً، حتى أن بعض أركان هذا النظام ودولته العميقة لم يتورع عن رفع شعار مدوٍّ لحزبه يقول إن "قوة لبنان في ضعفه"، فكيف يحصر الجيش السلاح في يده وهو ممنوع عليه أن يكون قوياً.
وهذا الرفض يتخطى الحالة المحلية، لينطلق من قرار دولي وعالمي، تتحكم فيه الولايات المتحدة الأميركية بهذا الجيش؛ وتحصر قرار قوته وتسلحه بإرادتها وحدها، فتمنعه من التسلح إلا عبرها، أو عبر أطراف تأمرها هي، بأن تعطي الجيش اللبناني من خردات الأسلحة الأميركية والغربية الموجودة لديها، مثلما حدث مع الأردن، الذي أعطى لبنان 40 دبابة أم 48 في بداية سبعينيات القرن الماضي، عندما كان القرار بأن يتصادم الجيش اللبناني مع المقاومة الفلسطينية. وهذا "الكرم" الأميركي والأردني تكرر مؤخراً، مما ينذر بشؤم من النوايا الأميركية، لأن الإدارة الأميركية، من جهة، فرضت على المعنيين في لبنان تجفيفه من العملات الصعبة، فجرى تهريب أموال المصارف والمودعين إلى الخارج، في سياق الضغوط الأميركية لإجبار لبنان على الانضمام إلى سياسة التطبيع مع العدو "الإسرائيلي"؛ والاعتراف بكيانه غير الشرعي، الذي أقامه فوق ثرى فلسطين. ومن جهة ثانية، تقوم الولايات المتحدة بدفع إعانات مالية للجيش اللبناني وعناصره، بعدما أدى قرارها السابق إلى أزمة مالية واقتصادية ومعيشية خانقة، طالت العسكريين مثلما طالت بقية اللبنانيين، وفي ذلك هيمنة فجة على هذا الجيش وقادته، تتجلى بعض مظاهرها في فتح أبواب ثكنات الجيش اللبناني للمستشارين الأميركيين ووفودهم، كما نجدها في تحويل مطار حامات العسكري في البترون، إلى قاعدة عسكرية أميركية، يتصرف فيها الجيش الأميركي وطيرانه بكل حرية، وهذه الهيمنة الأميركية، تمتد إلى منع الجيش اللبناني من الحصول على أسلحة أو دعم من دول أخرى، لا يرضى الأميركي عنها مثل روسيا وإيران. وفي منعه من استعمال السلاح الأميركي ضد العدو الإسرائيلي". وحادثة شجرة العديسة شاهدة.
وهذا الحظر الأميركي على استعمال السلاح المقدم من قبلها ضد العدو "الإسرائيلي"، لمسناه خلال الشهرين الفائتين، فقد جرى حصر السلاح فعلياً بيد الجيش، بعد قرار وقف إطلاق النار في الجنوب وانكفاء المقاومة، فكان أن دخل جيش الاحتلال إلى البلدات والقرى التي لم يستطع دخولها أثناء الحرب؛ وعاث فيها تدميراً وتخريباً وحرقاً للبيوت والأرزاق، أمام أعين الجيش اللبناني وقوات "اليونيفيل"، التي تأتمر بأمر غوتيريش نفسه. من دون أن يفعلا شيئاً، فكيف يحصر حمل السلاح بجيش ممنوع عليه أن يتسلح وأن يكون قوياً، كذلك ممنوع عليه أن يدافع عن نفسه وعن وطنه.
والواقع، أن تاريخ لبنان يشهد ان شعبه لم يكن يومأً غير مسلح. وأن السلاح لم يحصر يوماً بيد جيشه، يكفي أن فكرة إقامة كيان لبناني، جاءت بعد فتنتي 1840 و1860، التي شهدت اقتتالاً بين طوائف لبنانية، كان السلاح أداتها، في زمن الاحتلال العثماني، مما أنتج نظام المتصرفية، الذي تولى المستعمر الفرنسي توسيع حدوده ليصبح "دولة لبنان الكبير".
كما أن تاريخ اللبنانيين في ثوراتهم ضد الاحتلال العثماني، ثم ضد الاستعمار الفرنسي؛ وكذلك في صدامات عشائر وعائلات بعلبك- الهرمل مع الجيش اللبناني. ثم اقتتال اللبنانيين في ثورة 1958 وحروبهم الطائفية والمذهبية والمناطقية في عام 1975 وما بعده، تؤكد أن السلاح لم يحصر يوماً في لبنان بأيدي الجيش اللبناني. كما أن الجيش لم يقم يوماً بتجريد القوى الحزبية والطائفية اللبنانية من أسلحتها. وأبلغ دليل على ذلك أن ميليشيات "القوات اللبنانية" صاحبة الصوت الأبرز في العداء لسلاح المقاومة، باعت قسماً كبيراً من أسلحتها للدول والقوى المتقاتلة في يوغوسلافيا السابقة، لقاء ملايين الدولارات. وقائد هذه القوات لا ينفك يبلغ السفارات "الصديقة" له، بأن لديه 16 ألف مقاتل جاهزين لمقاتلة حزب الله. كما وصل الأمر إلى حفيد الرئيس كميل شمعون، منذ فترة غير بعيدة، للقول أن لدى القوى التي ينتمي إليها 20 ألف مقاتل. ناهيك عن أن الدعوة لتسليم سلاح المقاومة وصواريخها للجيش، كما يطالب البعض، تتناقض مع الحظر الأميركي على تسليح الجيش بسلاح روسي أو إيراني. وبالتالي، فإن تسليم سلاح المقاومة للجيش هو لوضعه في المخازن، أو لبيعه لمناطق الصراعات الدولية؛ وليس لحماية لبنان من الأطماع العدوانية "الإسرائيلية" التوسعية.
والواضح أن الكلام عن حصر السلاح بيد الجيش مقصود به سلاح المقاومة وحده، فالولايات المتحدة ومعها عبيدها من أنظمة عربية وغربية، تريد جعل لبنان محمية "إسرائيلية" يقطع فيها دابر المقاومة؛ ويقمع فيها كل صوت معاد للكيان الدخيل القائم فوق أرض فلسطين.
الجيش… وإشكالية احتكار السلاح _ عدنان الساحلي
الجمعة 24 كانون الثاني , 2025 02:00 توقيت بيروت
أقلام الثبات

