أقلام الثبات
تم الاعلان عن وقف إطلاق النار في غزة، وتنفس الغزّيون الصعداء، وبدأت مرحلة جديدة في الشرق الأوسط، حيث سيقوم كل بلد وكل طرف بترميم نفسه ومحاولة العودة الى الحياة الطبيعية، مع فارق أكيد أن ما بعد الحرب التي امتدت الى سوريا ولبنان والعراق واليمن، لن يكون كما قبلها؛ لا على الصعيد الاقليمي ولا على صعيد الهيمنة الدولية. تغيّر الشرق الأوسط وباتت الولايات المتحدة الأميركية المهيمن الأساسي في المنطقة، وغابت معها كل محاولات الدخول الى الساحة الشرق أوسطية؛ سواء كانت الصين عبر الاقتصاد والتنمية، أو روسيا عبر نفوذ عسكري وسياسي في سوريا.
باتت خريطة النفوذ في الشرق الاوسط اليوم شبيهة بعقد التسعينات؛ بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث استفاد الأميركيون من دخول صدام حسين الى العراق، فأتوا بأساطيلهم وقواتهم وفرضوا هيمنة وحيدة طاغية على النظام الاقليمي الشرق أوسطي، فهددوا الدول التي أسموها "مارقة"، وفرضوا استقراراً في المنطقة لم يدم طويلاً بعدما قرر جورج بوش الابن احتلال العراق لتغيير نظامه عام 2003.
وضع الأميركيون خلال عقد التسعينات، قواعد يتعين على كل دولة أن تلتزم بها؛ وإلا فإنها ستتحمل العواقب، وعلى هذا فقد كان على الدول في المنطقة أن تختار بين السير في ما تريده الولايات المتحدة، أو دفع تكاليف باهظة عسكرياً واقتصادياً. وعلى هذا الأساس، قام الأميركيون بفرض العقوبات على الدول التي اعتُبرت معادية للمصالح الأميركية وتقدم عملية السلام التي حاول الأميركيون فرضها (مسار أوسلو)، فتمّ تصنيف كل من العراق وليبيا وإيران والسودان، على أنها "دول راعية للإرهاب الدولي" من قبل وزارة الخارجية الأميركية.
واليوم، يعود الزمن في الشرق الأوسط الى مرحلة ما قبل دخول الأميركيين الى العراق عام 2003، فحلف "الراغبين" الذي أسسه جورج بوش الابن لاحتلال العراق، واستفادت منه إيران لبناء ما سمي "الهلال الشيعي" تمّ تقويضه عام 2024، وبالتالي سيفرض الأميركيون قواعد جديدة في الشرق الأوسط، وسيطلبون الالتزام بها.
ومع قدوم ترامب الى البيت الابيض، سيكون خيار العقوبات الاقتصادية، أو التهديد بها، سلاحاً يستخدمه بقوة لفرض الإرادة الأميركية على الجميع، بمن فيهم "اسرائيل". لقد شاهد العالم بأم العين كيف أن زيارة واحدة لمبعوث ترامب الى "اسرائيل" ولقائه بنتنياهو جعلت المستحيل ممكناً، وهو التوصل الى صفقة تبادل ووقف حرب الإبادة الى الشعب الفلسطيني، وقبول نتنياهو باتفاق وقف إطلاق النار، وهو الاتفاق نفسه الذي كان قد اتفق مع بايدن عليه في ايار / مايو من العام المنصرم، ثم رفض السير به، ملقياً اللوم على حماس.
إذاً، هو عصر جديد يدخله الشرق الأوسط، فإما أن تنحني الدول والمجموعات للعاصفة القادمة، أو ستكون أمامها أخطار استراتيجية، في ظل غياب أي إمكانية للتفلت، بسبب غياب التوازن الاستراتيجي في إقليم يعيش على صفيح ساخن وإمكانية اشتعاله سريعة بسبب تضارب مصالح دوَله الاقليمية الدائمة، ورغبة الأميركيين في الانتهاء من مرحلة استمرت 21 عاماً من الانخراط الدائم في الشرق الأوسط؛ انخراط استغلته قوى صاعدة لتعزز مكانتها في النظام الدولي.