أقلام الثبات
سنة مرت على غيابك و لا زلت في قلبي و عقلي و روحي. يقولون ان الوقت يساعد على النسيان و ان كلمة انسان مشتقة من النسيان و لكن كلما مر الوقت اتذكرك اكثر, افتقد صوتك و حضورك و طلتك و حتى سيجارتك.
لا زلت اراك في كل قلم و ورقة و كتاب و جريدة. اصبحت مثلك مدمنا على مشاهدة الأخبار و المقابلات. صباحي لا يبدأ قبل قراءة الجرائد و ان كنت اقرأها الكترونيا و ليس ورقيا مثلك بحكم ظرفي الحالي و ان كنت كحالك احب ملامسة الورق و طقطقة الجريدة و فلفشة الصفحات.
اعذرني لأنني لم ازرك منذ ان استودعتك التراب. فالظروف كانت اقسى و الله عالم بأحوالنا. لكنني لم يمر يوم لم افكر بك وشريط الأحداث يمر في ذهني يوميا منذ ذاك الصباح العادي عندما اتصلت بي طالبا مني ان آخذ لك موعدا لمراجعة طبية عادية لا لشيء, فقط لأنك شعرت بانزعاج بسيط قبل اسبوعين. سألتك ان كنت تشعر بشيء فكان جوابك مطمئنا, كلا كلا (نعم مرتين) فقط للمراجعة مثل العادة فأنا لا اشعر بشيء انما فقط هي فحوصات روتينية كما اعتدت ان افعل دائما و ما شعرت به كان منذ فترة و لا يعدو كونه اكثر من كحة او ما شابه. هل كنت فقط تمئنني و هناك ما لم ترد ان تقوله. لا اعرف و لا اريد ان اعرف. فبعض الأمور تحدث لكي لا نعرف بها اصلا. اخذت الموعد, و كان ما كان!
اعود الى الواقع, و عدم زيارتي لك, لأخبرك بما يختلج في صدري, لقد مرت الأيام سريعا, و تغيرت امور كثيرة و حدثت اشياء اقرب الى الخيال و ربما ما كنا لنتصورها لتحدث و لكنها حدثت. رحل احباء و رحل قادة و اختفت انظمة و حدثت حرب مهولة. جبلت بالدم و النار لتصنع بطولة اسطورية. لا ادري ماذا اخبرك و من اين ابدأ.
هناك الكثير من الفرح و الكثير من الحزن, هناك الأمل و اليأس, هناك الغد المشرق و الظلام الحالك, هناك كل هذا و ذاك و بين هذا و ذاك تتغير الأشياء بسرعة كبيرة. تصور مثلا, كنت اؤجل مشاهدة بعض المقابلات لمدة اسبوع لمشاهدتها وقت العطلة. الآن, ان لم تشاهدها في نفس اليوم, قد تصبح اخبارا قديمة غير ذي فائدة. كل يوم و كل ساعة تحمل شيئا جديدا لنا.
المضحك في الأمر, اننا كنا نبني توقعاتنا او استنتاجاتنا على حدث ما فيأتي حدث اخر من حيث لا ندري و ينسف تماما الحدث السابق و كأنه ما كان, و تظهر معطيات جديدة تعيدك الى البداية. فتبدأ بالبحث من جديد و تركيب الصورة و ما تلبث ان تكملها حتى تنسفها من جديد. هل قلت لك ان الأمر مضحك؟ حسنا, لعلني اخطأت التعبير, ربما هو مبكي !
كم افتقد تحليلك الصائب للأحداث, نادرا ما لم تصب في تحليلك و توقعك لما سيحدث – اصلا لا اذكر ان تحليلك خاب يوما و لكن استخدمت كلمة نادرا لكي لا أتهم بالمبالغة. فكم من خبر اوقفت نشره في الجريدة ام التلفزيون, لعدم ثقتك في صحته او ان شيئا ما سيحدث سيمنع حدوث ما سينشر و رغم ان الكل كان يجمع على الخبر السابق الا انك كنت تبقى مصرا على موقفك و تراهن على قرارك رغم كم المخاطر التي قد تتحملها في حال لم تصب و خسارة السبق الصحفي. هل يجب ان اقول انك كنت دائما على حق؟ من لا يصدق فليذهب الى زملائك في العمل و يسألهم.
نسيت ان اخبرك شيئا هاما, لن تصدق كم كشفت هذه الأحداث المتسارعة الكثير من الوجوه و كم من الأقنعة اسقطت. كم فوجئنا بأشخاص نقلوا و ينقلون البارودة من كتف الى كتف. في غضون شهرين يا رجل. الحقيقة, ان هذا كان صادما لنا جميعا, و لكنني على يقين انه لن يكون كذلك بالنسبة لك. و لو كنت معنا لكنت حتما ستقول: "لقد قلت لكم". بالمناسبة, كلما اطل احدهم نستذكرك, لقد نبهتنا من هذا و ذاك, لا تصدقوهم بكل شيء. كنا كنا نعتقد انك تبالغ, حسنا, لقد كنت على حق.
لو انك نرى هؤلاء اليوم, ذاك المتملق او ذاك الذي كنا ننتظر مقابلاته لكنك كنت تصفه بالمتعجرف و "المصلحجي" او ذاك الآخر ذو الحسابات الخاطئة الذي يدمر كل ارثه. اما "أفضلهم" على الإطلاق فذاك الذي لم يتعلم شيئا طوال تاريخه و لم يتعظ من كل الأحداث التي مر بها و لا زال يبني استراتيجياته و طموحاته على اوهام و احلام اليقظة التي هي اقرب الى كوابيس, لا زال كما هو, و لا زلنا كما كنت تقول, اسمعوا ما يقول و توقعوا العكس تماما. و هو كذلك.
حسنا, لأخبرك قليلا عن العائلة, الأولاد يكبرون بسرعة, نحاول ان نجعلهم يفهمون تسارع الأحداث و ما يجري حولهم من متغيرات. نحاول ان نخبرهم اننا مررنا بما هو اصعب و اقسى و انهم بخير و اننا معهم. هم بالنهاية اطفال, ذنبهم الوحيد انهم ولدوا في هذه البقعة من الأرض. نحاول ان نعطيهم الأمل بأن القادم افضل و ان جدهم كان دائما مقاتلا و مناضلا و متفائلا, حتى في اقسى لحظات مرضه لم يعترف بهزيمة المرض له و بقي صلبا حتى أخر نفس قائلا "سأهزمه حتى لو قتلني".
بماذا اخبرك ايضا؟ هناك الكثير لأقوله, لكنني لا ادري فعلا هل ستصدقني؟ هل ستغفر لي عدم زيارتي لك طوال عام كامل سيزيد مع القادم من الأيام. أيام لا اتمناها ان تكون كثيرة. فأنا فعلا لا ادري. لكنني سأزورك عاجلا ام آجلا. لكننني متأكد انك ستجد لي العذر كما تفعل دائما لتغفر لي و تجد لي الأعذار لأنك تعرف انني لن اسامح نفسي. سأجلس بجانب قبرك و ابكي, فأنا بحاجة للبكاء اليك, لأخبرك بكل شيء, بكل ما حدث لأقول لك اننا كما تركتنا لم نتلون و لم نتغير. موقفنا و افكارنا و عقيدتنا ثابتة كشجر السنيدان و الزيتون مهما اشتدت الرياح و العواصف. سأنتظر تحليلك و نظرتك الصائبة للأمور و سأسألك الكثير و سأنتظر جوابك. فلعله يأتي يوما.
و السلام,
حسام احمد زين الدين في الذكرى السنوية الأولى لوفاة والدي الصحافي احمد زين الدين الموافق في 11/ك1/ 2023