مسيحيو لبنان.. همومهم أكبر من زواريب أحزابهم ــ أمين أبوراشد

الجمعة 30 آب , 2024 11:08 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

لعل أكبر الكوارث الاجتماعية التي يعاني منها الشعب اللبناني، أنه ينزف بشراً وحجراً منذ العام 1975، وكل الأحزاب القديمة والحديثة التي انضوى تحت لوائها المواطن اللبناني، لم تُقارب أوجاعه ومخاوفه الوجودية، وعند كل استحقاق انتخابي ينتخب اللبنانيون مَن يعتبرونهم نخبتهم، ويتبادلون أنخاب النصر على بعضهم البعض، وينتظرون أربع سنوات جديدة لإعادة انتخاب مَن ثبُت أنهم ليسوا من النخبة.

هذا النزف المأساوي أصاب كل الشرائح الطائفية في لبنان، ولو أن وضع المسيحيين أسوأ من سواهم، وليس الإحصاء الديمغرافي الذي يشير إلى تدني نسبتهم إلى 36% من إجمالي المقيمين في لبنان هو المؤشر الأوحد للمشكلة على مستوى التوازن الوطني في بلد طوائفي، بل لأن مساحة الأرض التي باتوا يمتلكون، هي أيضاً 36% من إجمالي مساحة لبنان، بعد أن كانوا يمتلكون عام 1946 ما نسبته 86% من الأرض، و14% لباقي الطوائف، وهذه النِّسبة تؤكد أنهم يغادرون بلا عودة، ويبيعون أرضهم "غيابياً" إما عبر السماسرة أو مباشرة للقادرين على الشراء من الطوائف الأخرى، الذين يقصدونهم في المغتربات لشراء عقاراتهم بأسعار وكأنها "ورثة ميِّت".

وعلى خلفية "تقاتل" القادة المسيحيين فيما بينهم، سواء على مستوى الصف الأول كقادة أحزاب، أو الصف الثاني كنواب ووزراء، وتقاذف التُّهَم وتبادل المسؤوليات، جاءت أزمة النواب الأربعة المستقيلين ‏أو المُقالين من التيار الوطني الحر مؤخراً، لتشُعل الحرائق المجانية داخل البيت الحزبي الواحد، واختلف أهل البيت على "الوكالة" التي أعطيت لهؤلاء النواب من ناخبيهم، بحيث اعتبر كل نائب مُستقيل أو مُقال من الإطار التنظيمي للتيار، أن الناخبين "ملكه"، واعتبرت بعض قيادات التيار أن القاعدة الناخبة هي ملك التيار، وعلى النواب الأربعة الاستقالة من مجلس النواب، وإعادة تجربة حظوظ عودتهم إلى النيابة كمستقلِّين، وهذا الجدل هو في الحقيقة "بيزنطي"، ولا مسوغ أو تبرير قانوني له، لأن الاستقالة من المجلس النيابي قرار شخصي لكل نائب وصل بالاقتراع الشعبي وليس بالتعيين.

وإذا كان "مجلس الحكماء" هو من السلطات العليا في التيار، وهو حالياً برئاسة الرئيس ميشال عون، وهو الهيئة التي تُقيِّم أداء النواب ومدى التزامهم بالأنظمة والقوانين المرعية، وهي نفسها التي تقرر إقالة هذا النائب أو ذاك،  والتوصية بالإقالة أو قبول الاستقالة، فهي تتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية التقاعس أو العجز عن حصر الأمور والنقاشات داخل جدران البيت، ومنع نشر الغسيل على السطوح.

وموقع "مجلس الحكماء" أكبر من أن يكون قاضي صلح في البيت، أو في لعبة "البيت بيوت" الهزلية التي تحصل، بحيث بين ليلة وضحاها بات الياس بو صعب وصولياً على أكتاف ناخبي التيار، وألان عون خائناً مستقوياً بالبيئة الحليفة، وسيمون أبي رميا "كبرت الخسة براسو" وظن نفسه أكبر من التيار في بلاد جبيل، وإبراهيم كنعان الذي أحرق أياماً وليالٍ في البحث والتدقيق والتمحيص للحصول على داتا جمعها في كتاب "الإبراء المستحيل" بات في نظر البعض مضلِّلاً ومتواطئاً مع المنظومة الفاسدة، فمَن غير "مجلس الحكماء" في التيار يحمل المطرقة ويرفع الجلسة العلنية ويضبب الأمور ويُعيدها إلى الجلسات المُغلقة؟!

تحميل "مجلس الحكماء" في التيار الوطني الحر مسؤولية ضبط الأمور داخل أكبر حزب مسيحي له بعده الوطني، خصوصاً بعد توقيع "وثيقة مار مخايل"، لا يعني أننا نرمي الكرة في ملعب هذا المجلس منفرداً، بل على قيادة التيار الرجوع إلى القاعدة الحزبية الزاخرة بالأكاديميين وأهل الفكر والمخضرمين في عالم الإدارة، للوقوف على آرائهم في كيفية معالجة الأمور قبل استفحالها، لأن خسارة أربعة نواب بحجم بو صعب وعون وأبي رميا وكنعان ليست مزحة، في حزبٍ يُعتمد عليه مسيحياً على الساحة الوطنية الجامعة، والدور التاريخي للمسيحيين هو في الإقبال على الآخر، وهذا هو الدور الذي ارتضاه الرئيس ميشال عون لنفسه ولمَن يأتي بعده، وأبناء تيار ميشال عون مشهود لهم بالمواجهة الفكرية والسياسية على أرض الواقع، ولا يرصدون الأحداث عبر الناضور من تحت صنوبرات بكفيا، ولا يطرحون نظريات دونكيشوتية من "مستوطنة معراب".

التيار الوطني الحر مدعو بصفة عاجلة، وبرئاسة الرئيس ميشال عون، لتعديل أنظمة وصلاحيات "مجلس الحكماء"، وجعله المرجعية الأساسية لتقييم أداء نواب ووزراء التيار، وتصويب مسار "الضَّالين" عن المسار قبل فوات الأوان، وهنا نتوقف عند جزئيتين هامتين:

أولاً: أداء نواب التيار طيلة ولاية الرئيس ميشال عون في بعبدا، وما تعرض له عهده من حرب رباعية كانت "قيادتها" مسيحية في "مستوطنة معراب"، هذا الأداء كان ضعيفاً متردداً، لا بل متهاوياً أمام ضغوط الآخرين الذين يمتلكون وقاحة المرتكبين؛ الذين يحمِّلون سواهم مسؤولية نتائج ارتكاباتهم، ونضع مسألة كتاب "الإبراء المستحيل" جانباً على الرف للعبرة، لأن التسوية الرئاسية على حساب المبادئ العونية كانت خطأً تاريخياً، بل "خطيئة مميتة".

ثانياً: ما دام السجال قائماً في الوقت الحاضر حول دور النائب ابراهيم كنعان في قضية أموال المودعين، بصفته رئيس لجنة المال والموازنة، فلماذا لا يُفتح تحقيق داخلي في التيار، حول دور كافة نواب التيار في تمرير مشاريع قوانين تسببت في محق الوجود المسيحي، منذ إقدام الرئيس الراحل رفيق الحريري على نسف أبرز مداميك الميثاق الوطني والعُرف السائد حول قضية بيع الأراضي؟

عام 1864 تم عقد بروتوكول بين الحكومة العثمانية والقناصل الأوروبيين، اتفقوا فيه على منع تبادل وبيع عقارات من قبل الطوائف في ما بينها، وذلك بغية عدم التعرض للوجود المسيحي، وعام 1996 عمد الرئيس رفيق الحريري، بموجب قانون موازنة الـ96، الى إزالة حق براءة الذمة المُعطى للبلديات وحق الشفعة، وقد تم تمرير هذا الإلغاء من خلال التصديق على موازنة 1996، دون التعمق في خطورة الأمر، ومن حينها “تفلتت” الأمور عقارياً على مساحات الأراضي التي يملكها المسيحيون، في ظل تقاعس معظم النواب المسيحيين وتراجع اندفاعهم عن المواجهة لإعادة العمل بقانون 1996، وذلك لعدة أسباب، أبرزها تفاقم خلافاتهم، وغياب تضامنهم، وغرقهم في الكيديات السياسية وتحقيق مصالحهم الشخصية، في وقتٍ كان الأجدى اتحادهم في سبيل معالجة أخطر الملفات التي تهدّد أرضهم ووجودهم.

والآن، وفي غياب أية تسوية تجمع القيادات المسيحية، حتى على فنجان قهوة أو قربانة مقدسة في قداس ببكركي، انعكس الوضع المسيحي المُزري على الوضع الوطني العام في لبنان، ويكاد الشركاء الآخرون في الوطن يشتغلون قضاة صلح لإصلاح ذات البين بين القيادات المسيحية، والمارونية تحديداً، فيما "الجماهير الغفورة" من القواعد الانتخابية مشرذمة وشاردة كما القطعان الموتورة، والرُعاة يحملون العصي على بعضهم لخلافات على "المرعى"، والذئاب سائبة لنهش بقايا أمان وحقوق للشعب المسيحي في لبنان، الذي لا يطلب امتيازات عن سواه، بل يلعنها ولا يريدها، وكل مبتغاه العيش مع الآخر في هذا الوطن بسلام، دون أن يحمل أحدٌ عليه عصا الرعيان وراية الحماية الكاذبة لوجوده.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل