نظام الطوائف يخطف النور - عدنان الساحلي

الجمعة 23 آب , 2024 04:24 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات
​يعيش لبنان هذه الأيام حالة تسمى صفر كهرباء، أي ان المواطن لا يحصل فيها على أي مساحة زمنية، أو أي كمية من الطاقة الكهربائية، من مؤسسة الكهرباء، التي هي مؤسسة رسمية تتبع للحكومة، وليست شركة خاصة تتصرف وفق هواها، أو تلقي التبعة على غيرها، فالحكومة هنا هي المسؤولة عن حالة العتمة التي غرقت فيها البلاد، وكانت فرصة متعمدة لتتغول "مافيا المولدات"، في أموال وجيوب المواطنين، خصوصاً ممن لا تسمح لهم ظروفهم تركيب نظام طاقة شمسية، يؤمنون عبره حاجة منازلهم أو مؤسساتهم من الطاقة الكهربائية، فيما عاد آخرون إلى استخدام ضوء القنديل والشمعة.
​هذا الواقع هو مشهد حقيقي من حياة اللبنانيين ومعاناتهم هذه الأيام، فلكل شيء في لبنان "مافيا" تديره وتستثمره، وتفتعل المشاكل لتعطيل سيره السوي، ليكون العلاج خصخصة عن طريقها وبأيديها، فتحقق لنفسها أرباحاً فاحشة، فيما البلد وخزينته ومصرفه المركزي في حالة إفلاس كامل، تمنعه من تأمين المقابل الزهيد للنفط العراقي، كما تمنعه من شراء الغاز والفيول من السوق. لذا عمّت العتمة لبنان من أقصاه إلى أقصاه، مما دفع رئيس الجزائر عبد المجيد تبون إلى التبرع بكميات من النفط مجاناً، ستصل خلال الأيام المقبلة، لتعيد النور "الرسمي" للبنانيين كما كان قبل الظلام، اي ساعتين نهاراً وساعتين ليلاً، فلبنان حسب مؤشر "هانكلي" للدول الأكثر بؤساً، هو الثالث عالمياً والأول عربياً، بعد أن منع نظام المحاصصة الطائفية اي عملية محاسبة او معاقبة أو حتى مسائلة، للذين أفلسوا مالية الدولة، ثم استولوا على أموال المودعين في المصارف، بالتكافل والتضامن مع أصحاب المصارف، فهذا النظام الفاسد هو نتيجة تحالف زعماء الطوائف واصحاب المصارف وكبار التجار ومالكي الوكالات الحصرية.
​وحتى لا يترك هذا الكلام فرصة للذين تعودوا تضليل اللبنانيين وقلب الحقائق؛ يؤكد تاريخ هذا النظام الطائفي أنه فاسد مفسد بالتكوين، منذ أن أنشأه الاستعمار الفرنسي، تحت مسمى "لبنان الكبير". والفرنسي أدار البلاد منذ احتلاله لها عام 1920، حتى رحيله عام 1943، وترك فساداً شاملاً في هذا النظام، يشمل الذين يدعون أنهم سعوا لإنشاء الكيان، أو الذين يقولون إنه أنشيء لأجلهم، وكذلك كل الذين شاركوا معهم في محاصصة سرقة ونهب خيرات البلاد، أو "كوتا" الوظائف العامة والوكالات الحصرية وغيرها من مصادر الثراء، وهؤلاء هم الذين أسماهم أحد رموز الدولة والنظام، الرئيس الأسبق الراحل وقائد الجيش لمرحلة ما بعد الاستقلال وهو اللواء الأمير فؤاد شهاب، حيث أطلق عليهم اسم "أكلة الجبنة". والجبنة هي أموال الدولة والشعب ومواقع النفوذ.  
​منذ ذلك الحين، فشل الحكام اللبنانيون في أن يكونوا رجال دولة، فالرئيس بشارة الخوري "زعيم الاستقلال"، حوّل البلد إلى مزرعة يسرح فيها ويمرح شقيقه "السلطان" سليم الخوري، يمارس فيها استغلال النفوذ وكل أنواع الفساد.
​وخلفه الرئيس الراحل كميل شمعون، لم يكن أفضل حالاً، فهو حول البلاد إلى فناء خلفي للأميركيين، ليكون ساحة لنفوذهم ولنشر قواعدهم العسكرية، في أكثر من مكان في لبنان، لكن مواجهته بثورة شعبية أفشلت مشروعه المذكور، الذي كان من ضمن السعي الأميركي لإنشاء "حلف بغداد"، الذي سقط بدوره بإسقاط الشعب العراقي للحكم الملكي، الذي كان يديره رئيس الوزراء الشهير نوري السعيد. أما شمعون فلم يتورع عن استدعاء قوات "المارينز" الأميركية، التي نزلت على شاطئ الأوزاعي وتعسكرت في حرج بيروت، لحماية حكمه حتى آخر عهده.
​ويسجل لخليفة شمعون، الرئيس شهاب، أنه حاول بناء مؤسسات دولة، لكنه وقع في فخ الديكتاتورية، حيث يسجل اللبنانيون لمخابرات الجيش (الشعبة الثانية)، أنها كانت زراع العهد في إدارة البلاد، فارتكبت التجاوزات ونشرت المظالم؛ وافسدت ما كان يظن شهاب أنه طريقة لمواجهة الزعماء الفاسدين.
كما أن شهاب لم يعبر حاجز الطائفية لإصلاح النظام وإقامة دولة العدالة والمواطنة. بل كانت الشهابية "انعزالية مقنعة"، كما سماها المفكر الراحل منح الصلح، وهي لم تختلف في الجوهر عن القوى الانعزالية التي أسقطت حكم النهج الشهابي، لأنها رأت في نفسها القوة، عبر الحلف الثلاثي، الذي جاء بالرئيس سليمان فرنجية، ليستغل عهده في التحضير الميداني للاستيلاء على البلاد وحسم الصراع السياسي فيها، عبر التحالف مع العدو "الإسرائيلي"، الذي اجتاح لبنان عام 1982 ووصل إلى بيروت وتولى تنصيب بشير الجميل رئيساً للجمهورية. لكن شاباً وطنياً قام باغتيال بشير قبل تسلمه الرئاسة. فانتخب شقيقه أمين رئيساً وحاول استكمال مشروع أخيه، من خلال عقد اتفاق 17 أيار المشؤوم، للتطبيع مع العدو "الإسرائيلي" المحتل، لكن جرى إسقاط الاتفاق بالقوة. ومجلس النواب الذي اقر ذلك الإتفاق، هو ذاته قام بإلغائه.
ولم يكن عهد الياس الهرواي أفضل حالاً، فالهراوي ذاته كان زعيم ميليشيا مارست القتل والخطف والتهجير في زحلة وجوارها. وساد الفساد في عهده، إلى حد كانت حديث الصالونات وتندر السياسيين والمواطنين. والعهد الوحيد الذي تمرد على نفوذ الطوائف كان عهد الرئيس اميل لحود، الذي تعرض لحملات ممنهجة من شتى الجهات والطوائف. وآخر رهانات اللبنانيين كانت على عهد العماد ميشال عون، الذي شكل "تسونامي" شعبية اكتسحت كثيرا من الدوائر الإنتخابية، لأنها ضمت في صفوفها خليطا وطنياً راهن على "إصلاح وتغيير" ما، لكن التيار العوني سرعان ما وقع في فخ المزايدات الطائفية والعنصرية، التي استدرجه اليها خصمه السياسي "حزب القوات"، فكان تجاوب التيار العوني معها، إلى حد وقف توظيف مأموري أحراش، لأنها غير مستوفية المناصفة الطائفية.
وهكذا بعد هذه التجارب، لا يجد اللبنانيون الا طريقا واحداً، للحصول على وطن؛ وهو الخروج من نفق هذا النظام الطائفي، إلى دولة المواطنة والكفاءة والعدالة. أو البقاء أسرى العتمة والبؤس.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل