أقلام الثبات
شاء بنيامين نتانياهو قبل المغادرة إلى واشنطن، أن يتزوَّد بدعمٍ غير متوفَّر له في حكومته، بشأن المرحلة التالية من العدوان على غزة، فكان اجتماع الكنيست في الثامن عشر من الجاري، وتمّ التصويت بالأغلبية (68 صوتاً) من أصل 120، على مشروع قرار يرفض إقامة أية دولة فلسطينية في غرب نهر الأردن، باعتبار أن مثل هذه الدولة ستشكل "خطراً وجودياً على دولة إسرائيل ومواطنيها"، حسب نص القرار.
هذا القرار جاء من جهة، بعد اعتراف خمس دول، هي النرويج وأيرلندا وإسبانيا وسلوفينيا وأرمينيا، خلال الأسابيع الأخيرة بالدولة الفلسطينية التي أُعلِنت في الجزائر عام 1988 وباتت تحوز على اعتراف 149 دولة، ومن جهة أخرى، شاء هذا الكنيست تحميل نتانياهو رسالة الى الإدارة الأميركية الحالية، تتضمَّن رفض "إسرائيل" لفكرة إقامة دولة فلسطينية مستقبلاً، أو أية مفاوضات قد تؤدي إلى ذلك، خصوصاً أن الإدارة الأمريكية الحالية تسعى لإعادة الجانبين الفلسطيني و"الإسرائيلي" إلى طاولة المفاوضات، بهدف إيجاد حل سياسي للصراع المستمر منذ عقود بينهما، وذلك بعد التوصل إلى اتفاق من شأنه إنهاء الحرب في قطاع غزة.
وحاول نتانياهو خلال زيارته أن يكون داهية مع الأميركيين، من خلال ذهابه الى واشنطن في مرحلة "البطة العرجاء" التي تعيشها أميركا عادة خلال الأشهر التي تسبق كل انتخابات أميركية، بحيث لا يُقدِم خلالها الرئيس المنتهية ولايته على اتخاذ قرارات كبيرة في السياسة الخارجية، كي لا تنعكس سلباً على حزبه في صناديق الاقتراع، لكن "البطة العرجاء" الأميركية في حالة الرئيس بايدن تبدو كسيحة، بحيث أعلن انسحابه من السباق الرئاسي فيما كان نتانياهو على متن الطائرة، ونتانياهو وإن ناله نصيب من التصفيق الحاد خلال إلقاء كلمته أمام الكونغرس بغياب نصف أعضاء الحزب الديمقراطي من مجلسي الشيوخ والنواب، سمع من الرئيس بايدن إصراراً على ضرورة وقف النار وتحرير الرهائن، وسمع من نائبته كمالا هاريس عبارة: "لن أصمت على ما يحصل للمدنيين في غزة"، وقالت هاريس ذلك بتصميمٍ وحزم، بصفتها المرشحة المتوقعة لخلافة بايدن في السباق الرئاسي بوجه ترامب.
دهاء نتانياهو تحول إلى غباء، عندما صُدِم من صراحة "هاريس" وطار إلى فلوريدا للقاء الرئيس السابق دونالد ترامب، ورغم مظاهر الأبهة التي استقبل بها ترامب، نتانياهو وزوجته، فإن الرجل ليست له صفة رسمية بالوقت الحاضر سوى أنه خصم انتخابي لبايدن وهاريس، ورأيه لا يختلف عنهما بضرورة إنهاء مسألة غزة قبل وصوله المرتقب إلى البيت الأبيض، حتى إن اختلفت الوسائل والأساليب العدوانية لإنهائها، لكن نتانياهو بزيارته لترامب تخطى الأعراف والأصول الدبلوماسية، وزاد من غضب بايدن عليه، ومن حنق هاريس.
ولعل أبرز المعلومات الواردة من واشنطن، أن فريق كمالا هاريس في الحزب الديمقراطي، يخشى من أن إطالة العدوان على غزة وتمدد القتال "المفتوح" مع لبنان، سيستجلبان إيران إلى حرب شبه شاملة في الشرق الأوسط، وبالتالي يُلزِم أميركا بالدخول لحماية "إسرائيل"، وهنا تكمن مخاوف كمالا هاريس من تكرار ما حصل لأميركا في حرب فيتنام.
ومع ورود معلومات وليس تحليلات من واشنطن، مواكِبَة لحركة نتانياهو بين واشنطن وفلوريدا، أن أميركا بمعسكريها السياسيين الديمقراطي والجمهوري هي مع الإسراع بإنهاء الصراع مع حماس عسكرياً، وهي أيضاً مع هجوم محدود على مواقع حزب الله في لبنان، شرط أن يتفادى الجيش "الإسرائيلي" قصف المدن الآهلة بالسكان، لأن ذلك سينعكس على حجم ردود الحزب بقصف حيفا وتل أبيب ومستوطنات "إسرائيلية" مأهولة، ويستند الأميركيون في مخاوفهم، إلى قدرة مسيَّرات حزب الله على اختراق كل المنظومات الاستخبارية والدفاعية، سواء الأميركية منها او المُعدَّلة "إسرائيلياً"، وأن المُسيَّرة القادرة على تصوير هذا الكمّ من الأهداف الإستراتيجية، قادرة أيضاً على تدميرها في أي عمق داخل الكيان الصهيوني.
خطورة الوضع على "إسرائيل" في الوقت الحاضر هي من الجنوب اللبناني وليست من قطاع غزة، مع تأكيد من الديمقراطيين الأميركيين على حتمية "فيتنام جديدة" للقوات الأميركية في الشرق الأوسط ما لم يتمّ ضبط النفس، وعلى هذا الأساس أنهى كبير مساعدي الرئيس بايدن، آموس هوكستين "اعتكافه" وبادر إلى تسخين اتصالاته اللبنانية مع الرئيسين بري وميقاتي ووزير الخارجية عبدالله بو حبيب وقائد الجيش العماد جوزف عون، واتصالات غير مباشرة أيضاً مع قيادة حزب الله، على خلفية حادثة عين شمس في الجولان السوري المحتل واتهامات "إسرائيل" الكاذبة لحزب الله بالحادثة، فيما ردَّ أهالي عين شمس يوم الإثنين بطرد الوزير العنصري سيموترتش الذي حاول زيارة البلدة للتعزية، وأعلنوا أيضاً رفضهم استقبال نتانياهو.
وفي نفس السياق الأميركي، أعلن ديفيد شينكر؛ مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأدنى، استبعاده نشوب حرب واسعة بين إسرائيل والحزب على خلفيّة حادثة مجدل شمس لسببين: "الأوّل أنّها حادثة غير مقصودة، والثاني أنّ الطرفين لا يريدان التورّط في حرب موسّعة".
وقال شينكر في إطلالة إعلامية، إن أميركا منشغلة حالياً بانتخاباتها الرئاسية، وأن كمالا هاريس لم تكن خلال الثلاث سنوات الماضية من حكم بايدن مُنخرطة أو ضليعة بالسياسة الخارجية، لكنّ “إرهاصات” سياستها ظهرَت في تصريحاتها الأخيرة حول الحرب الجارية في قطاع غزّة، ومن هذا المُنطلق يقول شينكر إن هاريس ستستمرّ في "سياسة خفض التّصعيد واستكمال جهود وقف الحرب، ولا أعتقد أنّ أحداً في الإدارة الحاليّة، وحتّى في إسرائيل، يُريد الحرب الواسعة". وبحسب قراءته، فإنّ هاريس لن يكونَ لديها التركيز الكامل على لبنان أو لن يكون لبنان على جدول أعمال سياستها الخارجيّة بشكلٍ فاعل، عكس سياسة ترامب الذي يدعو إلى سحق حماس بصرف النظر عن كلفة الضحايا من المدنيين، مع التلويح بدعم تسليحي أميركي غير محدود في حال استمرت المراوحة الإسرائيلية على حالها من عدم الحسم خلال الأشهر الستة الباقية من ولاية بايدن ووصول ترامب الواثق من عودته إلى البيت الأبيض.
وقد طرح بعض المراقبين مسوَّدة للنقاش في المقارنة بين بايدن المُنهَك لأكثر من سبب، والعاجز عن ممارسة الضغط على "إسرائيل" لتمرير اقتراحه لوقف النار في غزة وتحرير الرهائن، وبين ترامب المُتحمِّس لإنهاء كافة الملفات الخارجية التي تورط فيها بايدن، خاصة أوكرانيا التي لا يتعاطف ترامب معها كونها صنيعة "الناتو"، وحقده على محور المقاومة في الشرق الأوسط وفي طليعته إيران، وبنتيجة المقارنة، تبيَّن للمراقبين أن "أميركا ترامب" لن تتمكن من إمداد إسرائيل أكثر مما فعلته "أميركا بايدن" بالأساطيل والبوارج والجسور الجوية، لأن المواجهة ليست مع جيوش تقليدية بل مع حركات مقاومة، من اليمن إلى العراق الى لبنان وفلسطين، والدعم الإيراني لها واضح وصريح، والدعم الشعبي لهذه المقاومة هو مطلق، وأية خطوات تسليحية أميركية مُبالغ فيها لن تستطيع إبادة الملايين من غزة الى الضفة الغربية إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن، ليتحقق للكيان الصهيوني أمنه الافتراضي الذي لن يحصل قبل الاعتراف بقيام الدولة الفلسطينية ذات السيادة.
وإذا كان نتانياهو بحاجة لافتعال مشهدية حرب، في محاولة لترميم وضعه الشخصي وإنقاذ حكومته من خيبة غزة أو من ضربات محور المقاومة، فإنه بذلك يقرع طبول حربٍ فارغة مهما كان الدعم الأميركي، لأن المواجهة الكبرى باتت رهن الصمود الشعبي، خاصة مع لبنان، ولتكن هذه الحرب بالون الاختبار النهائي لجبروت هذا الكيان، في الوقت الذي يشكك فيه جنرالات في جيشه بجهوزية هذا الجيش لحربٍ في لبنان، مع إعلان "نيويورك تايمز" منذ ساعات عن مسؤولين سياسيين إسرائيليين، تشكيكهم المماثل خاصة مع استمرار الحرب على غزة، وفقدان الكثير من الذخائر وقطع الغيار والمستلزمات العسكرية، واعتراف وسائل الإعلام الإسرائيلية أن لا أحد في أجهزة الاستخبارات يعرف حجم قدرات حزب الله في الردّ عند اندلاع الحرب.