مقالات مختارة
مؤخراً، كثُرت المناقشات التي تقارن بين الشارع العربي الذي يبدو خاملاً غير عابئ بالقدر الكافي بما يدور في قطاع غزة وبين الشارع الغربي الذي تزداد فيه جذوة الاحتجاجات يوماً بعد آخر مطالبة بوقف العدوان الإسرائيلي الهمجي، والذي أسفر عن استشهاد أكثر من 37 ألف فلسطيني حتى الساعة.
على المنوال نفسه، يمكن النظر إلى تظاهرات الجامعات الأميركية ضد استمرار الحرب في غزة، والتي لم تشهد أي تراجع منذ انطلاقها، وفي الوقت الذي سرت فيه فكرتها إلى معظم جامعات العالم، بيد أنها على ما يبدو لم تجد سبيلاً إلى الطلاب داخل الجامعات العربية، إذ لا يزال الهدوء سيّد الموقف، رغم الغضب الذي يُظهره معظم الشباب العرب من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
الأزمة في هذا النوع من المقارنات أنه يتجاهل الدوافع الحقيقية التي وقفت خلف انطفاء الحِراك العربي المناصر للشعب الفلسطيني في معظم العواصم العربية، خاصة أن تظاهرات عديدة كانت قد انطلقت بالفعل خلال الأسابيع الأولى للعدوان، بعد ذلك هدأت الأمور تدريجياً.
عملياً، لا تتعلّق حالة الفتور التي خيّمت على الشارع العربي بتراجع الاهتمام الشعبي بالقضية الفلسطينية، بقدر ما تتعلق بالضغوط الأمنية وترتيبات السياسة الداخلية داخل الأقطار العربية، ويمكن رصد تلك الأسباب في النقاط الآتية:
أولاً: بعد نجاح عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، انطلق طوفان شعبي آخر في مختلف الدول العربية يعلن الولاء للمقاومة الفلسطينية، ويؤكد رفضه صور التطبيع مع العدو الصهيوني كافة.
الأزمة أن هذا التيار الشعبي الجارف تمت مواجهته بعصا الأمن الغليظة، إذ تم القبض على عديد من الناشطين العرب الداعين إلى تنظيم التظاهرات المؤيدة لفلسطين، كما تم فرض حصار على الميادين ودور العبادة ومقار الأحزاب والنقابات التي كانت تنطلق منها الاحتجاجات.
كانت التشديدات الأمنية كفيلة بإجهاض أي محاولة لتنظيم أي فعالية مؤيدة للمقاومة الفلسطينية في معظم العواصم العربية، وبالتالي كان من الطبيعي أن تتراجع المظاهر الدالّة على وجود رفض شعبي عربي للممارسات الإسرائيلية بحق أهالي غزة، بينما الواقع يؤكد خلاف ذلك.
ثانياً: في مواجهة ارتفاع معدّل الاهتمام الشعبي العربي بالقضية الفلسطينية خلال الأشهر الثمانية الماضية، بذلت تيارات سياسية عديدة موالية للأنظمة الغربية ومؤيدة للتطبيع مع "إسرائيل" جهداً واضحاً لتشكيك القوى الشعبية في جدوى التظاهر أو التعبير العلني عن تأييد القضية الفلسطينية.
استهدفت تلك التيارات التي لا تتمتع بقاعدة شعبية واسعة، إبعاد الجماهير العربية عن التفاعل الإيجابي مع أي دعوة أو مناسبة لإعلان دعم الشعب الفلسطيني، وذلك عبر المنصّات الإعلامية المختلفة، وتمتعت تلك التيارات في كثير من الأحيان بدعم السُلطات المحليّة.
ثالثاً: شعور المواطنين العرب بأنهم مطالبون بتقديم ما هو أكثر من التظاهرات ورفع الأعلام الفلسطينية في الميادين العامة، ربما يكون سبباً في انصرافهم عن الاستمرار في تلك الممارسات، فأغلب الشباب العربي المتعاطف مع القضية الفلسطينية يرى أنه، بشكل أو آخر، مُلزم بالمشاركة في عمليات المقاومة الموجهة ضد العدو الإسرائيلي، وأن واجبه يتخطى مساحة الاحتجاج.
وذلك بطبيعة الحال عكس المواطن الغربي، الذي يرى أن تعبيره العلني عن رأيه الرافض للجرائم الإسرائيلية، هو منتهى آماله، وأنه بذلك قد أدّى واجبه الإنساني تجاه هؤلاء الضحايا العرب الذين يسقطون يومياً بفعل رعونة نتنياهو وحكومته المتطرفة.
رابعاً: بسبب الظروف الاقتصادية القاسية التي يعيشها معظم العرب باستثناء مواطني شبه الجزيرة العربية، ونتيجة لعمليات غسيل المخ المتواصلة من جانب الأنظمة الرسمية، والتي استُخدمت فيها وسائل الإعلام، أصبح قطاع كبير من المواطنين يختار تلقائياً الانكفاء على مصالحه الشخصية الداخلية، معتبراً الخروج للمطالبة بوقف الحرب في غزة أمراً لا يعود عليه بالنفع.
بطبيعة الحال هذا التصوّر غير سليم، لأن بقاء "إسرائيل" ككيان احتلال قائم في المنطقة هو أمر كفيل بإجهاض أي مشروع للتنمية الاقتصادية أو الاجتماعية في دول الشرق الأوسط كافة، كما أن الأنظمة الغربية التي رعت الاحتلال الإسرائيلي من يومه الأول لأسباب استعمارية صريحة، لها النصيب الأكبر في تدهور الأحوال في مختلف دول الجنوب، ومنها الدول العربية.
عموماً، فإن إحجام البعض عن الاهتمام في القضايا العامة، بجانب تصوير الخروج من أجل التظاهر على أنه "جريمة في حق الوطن" ويؤدي إلى "خلل أمني واسع"، بالإضافة إلى استخدام بعض التفسيرات الدينية لإقناع الناس بإطاعة الحكومات وعدم مخالفة أوامرها، جميعها تعدّ أسباباً رئيسية في تراجع وتيرة التظاهرات العربية.
هذه الأسباب بالطبع لا تتوفر لدى المواطن الغربي، فثمة حدود للمضايقات الأمنية وتدخلات السلطة للتأثير في الوعي العام، كما أن الناشطين في المجالات السياسية والحقوقية تحديداً لديهم استعداد لدفع أثمان حتى وإن كانت باهظة، وذلك في سبيل الدفاع عن القيم والأفكار التي يعتنقونها، وقد بدا ذلك واضحاً في الحراك الأخير، الذي يستميت القائمون عليه بهدف إدانة "إسرائيل" وفضح جرائمها.
خامساً: سعت الأنظمة العربية بطرق مختلفة إلى تحجيم الفعاليات الداعمة للقضية الفلسطينية، خشية أن تأخذ تلك التجمعات الجماهيرية مناحي أخرى، فالحكومات العربية بمعظمها خشيت أن يطالها لهيب التظاهرات أو أن تشكل تلك التجمعات السياسية نواة لانتفاضة داخلية لأي أسباب متعلقة بتراجع مستوى المعيشة أو سوء الإدارة.
وكانت موجة الاحتجاجات الداعمة لغزة، والتي شهدتها بعض البلدان العربية في بداية الحرب، قد أعادت إلى الأذهان المشاهد المتعلقة باحتجاجات "الربيع العربي"، ما دفع الأنظمة إلى بذل جهد واضح بهدف منع أي تظاهرات مؤيدة لغزة، أو حصارها في أضيق نطاق بحيث تكون محدودة التأثير.
مظاهر اهتمام الشارع العربي بأحداث غزة
تراجع وتيرة التظاهرات داخل المدن العربية الكبرى لا يعني بالضرورة أن الشعب العربي قد فقد شغفه بمتابعة الأحداث الجارية في قطاع غزة، فلا تزال الأخبار المتعلقة بالعدوان الإسرائيلي تحتل الصدارة في النشرات الإخبارية، وحتى الساعة لا يكاد يخلو أي تجمع عربي من حديثٍ عن المآسي التي يعانيها أهالي فلسطين بشكلٍ عام.
وقد راهن العدو الإسرائيلي ومؤيدو التطبيع داخل العالم العربي على تراجع اهتمام الشارع بمرور الوقت، بيد أن ذلك الرهان قد خاب، وظل الانجذاب العربي إلى فلسطين قائماً، بينما الذي تغيّر هو مظاهر التعبير.
ويمكن رصد بعض مظاهر الاهتمام العربي بالحرب في غزة طوال الأشهر الماضية، من خلال النقاط الآتية:
١ -رغم المحاولات الكثيفة للتشكيك في جدوى حملات المقاطعة للبضائع والسلع الغربية أو التي يثبت تعاملها مع الاحتلال الإسرائيلي، فإن عديداً من المواطنين العرب قد تشبثوا بخيار المقاطعة، وكان الأمر كفيلاً بإصابة كثير من المؤسسات الغربية الكبرى بأضرار اقتصادية بالغة.
هذه الاستجابة الواضحة لدعوات المقاطعة تكشف بلا شك حجم اهتمام الشعب العربي بالقضية الفلسطينية، واستعداده للمساهمة في أي عمل يتسبب في ازعاج العدو الإسرائيلي أو حصاره وإضعافه.
٢ -مواقع التواصل الاجتماعي كانت بدورها ميداناً واسعاً للتعبير عن دعم فلسطين، فرغم حالة التضييق التي مارستها بعض المواقع مثل "فيس بوك" ولجوئها إلى حذف المنشورات وتقييد الحسابات التي تعلن دعمها للمقاومة ورفضها للوجود الإسرائيلي، فإن المواطنين العرب قد وجدوا في مواقع التواصل ساحة للتعبير عن مواقفهم بحريّة ومن دون قيود.
وبحسب خبراء في التكنولوجيا الرقمية، فإن الشبكة العنكبوتية قد وفّرت لأغلبية المواطنين العرب المجال للتعبير عن آرائهم من دون سقوف، ربما للمرة الأولى في تاريخهم الحديث. ولا يمكن لأي باحث تجاهل هذا الكمّ من المنشورات والتعليقات والصور والفيديوهات المؤيدة للقضية الفلسطينية، والتي تنتشر على حسابات المواطنين العرب.
اللافت للأنظار في هذا السياق، هو قدرة الشباب العربي على توظيف صفحات "فيس بوك" التي تم إعدادها لأغراضٍ ترفيهية أو ساخرة بهدف مناصرة الشعب الفلسطيني، وكان لتلك الصفحات تأثير أكبر في أغلب الأحيان من الصفحات ذات المحتوى الجاد.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن كل الجهود الإسرائيلية لاختراق الوعي العربي عبر مواقع التواصل قد باءت بالفشل، بعدما تمت مواجهة أي محتوى يدافع عن وجهة النظر الإسرائيلية أو يدين عمليات المقاومة بسيل من التعليقات العربية الغاضبة أو عمليات الإبلاغ المتكررة لتعطيل انتشاره.
٣ - انتشار الأعلام الفلسطينية في الشوارع العربية، وكذلك صور الشهداء والملصقات التي تعبّر عن تأييد المقاومة وفصائلها، هو بمنزلة أمر مرصود حتى اليوم، ولا يمكن تجاهله عند الحديث عن مظاهر الاهتمام العربي بالأوضاع داخل الأراضي المحتلة.
٤ -حجم التأييد الذي يحظى به أي مواطن عربي يقوم بعمل عسكري أو سياسي ضد "إسرائيل" يشير إلى تشوّق القطاعات الشعبية العربية كافة للمساهمة في المعركة، ويظهر ذلك في أقطار كبرى مثل مصر، حين احتفى المصريون على صعيدٍ واسع بالجنود الذين استشهدوا على الحدود الشرقية في اشتباكات مع "جيش" الاحتلال.
ويكفي هذا الأمر للدلالة على فشل المحاولات لاختراق العقل الجمعي العربي، أو دفع الشباب والشابات العرب إلى القبول بوجود "إسرائيل" وتطبيع العلاقات معها.
٥ -حملات التبرّع الناجحة التي تنظمها بعض الهيئات العربية المستقلة لدعم الفلسطينيين، هي بمنزلة دليل آخر على وعي الشعب العربي بحجم المعاناة التي يعيشها أبناء غزة، والاستعداد للمساهمة في التخفيف منها، إذا توفرت الفرصة.
٦ -ساحات المقاومة المتعددة سواء في لبنان أو العراق أو اليمن أو سوريا، وجميعها أقطار عربية، هي في واقع الأمر تعبير عن موقف شعبي واضح يطمح إلى استرداد الأراضي المحتلة وتطهيرها من دنس الاحتلال، وذلك عبر العمل المسلح المباشر، الذي يتكامل مع المقاومة الفلسطينية في الداخل.
السيد شبل ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً