مقالات مختارة
يبدو من الواضح أن ردود فعل نتنياهو وفريقه الحكومي والعسكري والأمني تمهد للرفض الإسرائيلي لهذا الطرح على الأقل في المدى القريب. يلجأ نتنياهو إلى رفع سقف تصريحاته، ويشير إلى استعداد "إسرائيل" للقتال وحدها، فيساهم عن سابق إصرار وتصميم بتعقيد مسألة قبوله الصفقة.
الرفض الإسرائيلي ليس مفاجئاً. هناك الكثير من العوامل التي تساعد على فهم هذا الموقف، أبرزها:
أولاً: من المؤكد أن "إسرائيل" فشلت منذ أكثر من 7 أشهر في تحقيق أهدافها. هذا الفشل يعقب الضربة القوية التي تلقتها يوم تنفيذ المقاومة الفلسطينية عملية طوفان الأقصى، والتي أصابت دعائم عقيدتها الأمنية بشكل مباشر.
بدت "إسرائيل" في ذلك اليوم مفتقرة إلى عناصر الردع ومكشوفة وعاجزة عن استشعار الخطر وتوقعه، كما أنها لم تكن في موقع المبادر، فضلاً عن أن المفاجأة كان مسرحها الجبهة الداخلية التي سعت منذ تأسيس الكيان لجعلها بمعزل عن آثار الحروب التي خاضتها. وقد نجحت في هذا الأمر إلى حد كبير مع تسجيل بعض الاستثناءات التي لا ترقى في خطورتها إلى ما حصل يوم 7 تشرين.
لم تنحصر التداعيات السلبية، لا بل الكارثية، بهذا الحد، فقد شكل اهتزاز صورتها أمام الرأي العام العالمي نوعاً من الاستنزاف الإضافي والمؤلم لها. كل هذه العوامل جعلت الحرب التي تخوضها كثيرة التعقيد والتركيب، وبالتالي يصبح توقع موافقتها على صفقة لا ترمم أياً من المكامن التي أصيبت بها وتعيدها إلى المربع الأول، كما في صبيحة 7 تشرين الأول، مستبعداً بدرجة كبيرة.
ثانياً: لا شكَّ في أن تجربة الفشل الإسرائيلي في حرب تموز 2006 تحضر بقوة عند صانع القرار الإسرائيلي.
استطاعت المقاومة في لبنان أن تحوّل القرار 1701 الذي انتهت بموجبه الحرب إلى فرصة لإعادة بناء قوتها وتعاظم قدراتها. صنفت "إسرائيل" حزب الله خلال السنوات اللاحقة "خطراً استراتيجياً" يتهددها. هذا بالضبط ما يخاف منه الإسرائيليون في حال وافقوا على الطرح الحالي: أن تكرر حماس سيناريو تعاظم قوة حزب الله.
هل يعني هذا أن "إسرائيل" يمكنها الاستمرار بالحرب؟ بالتأكيد لا. من المرجح أن تسعى "تل أبيب" لأمر بين الأمرين. إن مراقبة التصريحات والسلوك الإسرائيليين تنبئ بسعي إسرائيلي للوصول إلى وضع يؤمن الآتي:
أولاً: إبقاء يد جيشها مفتوحة في غزة لتوجيه ضربات محددة، ما يضمن خروجها من حالة الاستنزاف التي تتعرض لها من جهة، ويسمح لها في الوقت نفسه بإجهاض أي محاولة تلجأ إليها المقاومة لتطوير قدراتها وإمكانياتها من جهة ثانية، وهذا ما يتم التعبير عنه باستنساخ تجربة الضفة وتحويل غزة إلى ضفة ثانية.
ثانياً: إطباق الحصار على غزة وضبط مفاتيح القطاع الخارجية من خلال السيطرة على المنافذ البرية والبحرية بشكل يمنع دخول أي قدرات وإمكانيات إلى المقاومة.
وفي هذا السياق، تأتي عملية احتلال معبر رفح والسيطرة عليه، إما مباشرة كما هو الحال في هذه الفترة وإما من قبل طرف آخر في المستقبل. والشرط الأول الذي يجب أن يتوفر في أي جهة سيتم إيكال المهمة لها هو العداء للمقاومة ومنعها من أي استفادة من المعبر.
وفي هذا السياق أيضاً، يأتي مشروع الرصيف البحري الذي باشر به الأميركيون، والذي يصب في الهدف نفسه.
ثالثاً: إدارة الشؤون المدنية لغزة بعيداً من أي دور أو نفوذ للمقاومة، وتحديداً حركة حماس. وقد طرحت الكثير من الأفكار حول هذه المسألة، من إيلاء المهمة إلى العشائر، مروراً بجمعيات المجتمع المدني، وصولاً إلى أطراف خارجية تم التداول بأن "إسرائيل" تريد منها أداء دور في هذا المجال.
المهم أن لا يبقى لحماس نفوذ في القطاع، ما يعني تلقائياً تعزيز البيئة الحاضنة للمقاومة ومنحها عامل الأمان المجتمعي.
رابعاً: اجتياح منطقة رفح. لا يناسب "إسرائيل" نصف أو ربع عملية في رفح. ويبدو أن السبب الرئيسي لعدم استعدادها للتراجع عن هذه الخطوة هو أن رفح هي المنطقة التي تعكس مظهر قوة المقاومة، والتي تتركز فيها بنية تشكل منطلقاً يمكن لحماس أن تستفيد منها لإعادة ترميم أو بناء ما تم تدميره من بنى في المناطق الأخرى من غزة، وهذا يتناقض بشكل جوهري مع أهداف "إسرائيل".
وبالتالي، فهي ستعمل على منعه بكل ما أوتيت به من قوة، وسترفض الانصياع إلى الرغبة الأميركية بعدم تنفيذ عملية واسعة في رفح، ولكن هل يعني هذا الكلام أن واشنطن لا تريد لـ"إسرائيل" أن تحقق أهدافها؟
بالطبع لا . كما هو معروف، فإن الخلاف بين الطرفين تكتيكي. ترى واشنطن أن الأهداف السالفة الذكر يجب ويمكن لـ"إسرائيل" أن تحققها، ولكن من دون تنفيذ عملية واسعة في رفح، ما يسمح بأن تتجرع المنطقة والرأي العام الدولي الفعل الإسرائيلي من دون أن يطغى عليه مشهد القتل الذي لم يعد يناسب واشنطن في الدرجة الأولى، ويسبب إحراجاً لها ولدول المنطقة في الدرجة الثانية.
لذلك، تحاول واشنطن إقناع "إسرائيل" بالصفقة التي تسمح لها بعملية وفق المواصفات الأميركية وتمنح بايدن مساحة زمنية لتمرير الانتخابات الرئاسية، ولوضع بعض بنود عقيدة بايدن تجاه الشرق الأوسط موضع التنفيذ، وأبرزها اعتماد حل الدولتين وفق الرؤية الأميركية والمصالح الإسرائيلية والذهاب إلى صفقة تطبيع بين "إسرائيل" والمملكة العربية السعودية.
طبعاً، حتى الآن لا يبدو أن نتنياهو في وارد تبني النظرة الأميركية ويواصل رفضه الصفقة، مصراً على أهدافه وما يراه طريقة فضلى لتحقيقها. هل يعني هذا أن نتنياهو، ومعه الأميركيون، سيحققون أهدافهم ولو اختلفوا على الأسلوب؟
مرة جديدة الجواب هو. بالتأكيد لا، فالمقاومة تملك الكثير من الأوراق، وأبرزها ورقة الأسرى، وحقيقة أنها لا تزال القوة الرئيسية في غزة، والتي يصعب، وإن لم يكن من المستحيل، شطبها.
بثينة عليق ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً