مقالات مختارة
لم تكن القيادة «الإسرائيلية» اليمينية المتطرّفة معنية كثيراً بما ستؤول إليه المفاوضات والوساطات بشأن صفقة يُعمل عليها لإطلاق الأسرى ووقف الحرب – العدوان على غزة، بل كانت تراهن على رفض حماس للمقترح المصري/ القطري المدعوم أميركياً، وتصرفت على أساس فشل المفاوضات الرامية لإيجاد مخرج من المأزق ما سيؤدي في ظنهم الى تغيير الموقف الأميركي من العملية العسكرية التي تحضّر لها «إسرائيل» على رفح لإنجاز ما وعد به نتنياهو، كما زعم وتشدّق، بتحقيق «النصر المطلق» عبر اجتياح رفح وتفكيك ما تبقى من مقاومة فلسطينية فيه وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين بقوة الضغط العسكري في الميدان.
وقد بدا واضحاً أنّ التنازع في «إسرائيل» حول عملية رفح قائم بين اتجاهين حربيين لا محلّ للسياسة بينهما، حيث تراجع تأثير القائلين بها ليتقدّم عليهم صوت دعاة الحرب، ما بلوَر الاتجاهين المذكورين، الاتجاه المتمثل بالتفاهم الأميركي «الإسرائيلي» والمتضمّن تنفيذ عملية عسكرية محدودة في منطقة رفح تكتفي بعزل المنطقة والسيطرة على محاورها الرئيسية وعلى معبر رفح مع مصر مع تكثيف الضربات الجوية النوعية لبنك أهداف منتقى على أساس أنه مراكز مقاومة، مع تجنّب المسّ بالمدنيين الفلسطينيين قدر الإمكان، أما الاتجاه الثاني فهو ما يريده الفريق اليميني المتطرف ويتمثل باجتياح تدميري ساحق لكامل منطقة رفح والدخول الى كلّ مربعاتها في كامل مساحتها البالغة 35 كلم2 دون الاكتراث بما تلحقه العملية العنيفة الضارية تلك من ضرر وخسائر بالمدنيين الفلسطينيين حذرت منها كلّ القوى والمنظمات والكيانات الخارجية، بما فيها الغربية.
في ظلّ هذا التنازع، جاءت موافقة المقاومة الفلسطينية على المقترح المصري ـ القطري، موافقة صدمت القيادة الإسرائيلية المتطرفة وأربكتها، لأنّ في هذه المواقفة خريطة طريق الى إنهاء الحرب والعودة التدريجية الى ما كان عليه وضع القطاع قبل 7 تشرين الأول أكتوبر الماضي مع فك الحصار عن القطاع وتأكيد على هزيمة «إسرائيل» وإخفاقها في حربها على القطاع هزيمة متمثلة بالعجز عن تحقيق أيّ من أهداف الحرب ـ العدوان ذاك حيث بقيت المقاومة في القطاع وبقي السكان فيه ولن يحرّر الأسرى إلا بمقابل تحرير أسرى فلسطينيين بيد العدو.
وجدت «إسرائيل» نفسها في وضع مَن تفلت الأمور من يده، وتحاصَر على أكثر من صعيد، مع علمها بأنّ المهل المحدّدة لها أميركياً للخروج من ميدان غزة بدأت تضيق وتتآكل ولم يتبقّ منها أكثر من 5 أسابيع في الحدّ الأقصى، ولذلك سارعت الى رفح في عملية عسكرية لم تحسم هويتها حتى الآن ولم تحدّد طبيعتها ولم يتمّ ربطها في أيّ من الاتجاهين المذكورين، لكن سجل فيها السرعة في السيطرة على معبر رفح وكثافة النيران التي صبّت على المنطقة وتجاهل وضع المدنيين فيها رغم أنّ «إسرائيل» تظاهرت قبل 24 ساعة بأنها في صدد تنفيذ عملية إخلاء المدنيين مبتدئة بإخلاء 100 ألف من أصل مليون و300 ألف يقيمون في منطقة رفح الآن.
إذن كان الردّ «الإسرائيلي» العملي على موافقة حماس باسم الفلسطينيين على المقترح المصري ـ القطري، بإطلاق عملية اجتياح رفح اجتياحاً لم تحدّد حتى الآن أبعاده ومداه، لكنه يرمي كما يبدو إلى تحقيق أكثر من هدف يبتغيه اليمين الإسرائيلي المتطرف بقيادة نتنياهو، منها تنفيذ وعد قطعه نتنياهو نفسه باجتياح رفح واستكمال تفكيك المقاومة فيها كما يزعم، ومنها استفزاز المقاومة الفلسطينية ودفعها لتعليق المفاوضات او الانسحاب منها والتراجع عن موافقتها على المقترح المطروح وإجهاض الصفقة التي ستنهي الحرب خلافاً لما يريده اليمين المتطرف، ومنها إطالة أمد الصراع بشكل يبقي حكومة نتنياهو الحالية في السلطة لأطول مدة ممكنة، ومنها الادّعاء بتحقيق «النصر المطلق»، كما يزعم نتنياهو عبر تفكيك المقاومة في رفح.
بيد أنّ هذه الأهداف التي يسعى اليها نتنياهو ومعه الفريق اليميني المتطرف في حكومته ليست من الأهداف السهلة او الممكنة التحقيق بشكل آمن ومؤكد، وسيعترضها كما يعلم او يجب ان يعلم الطرف الإسرائيلي المعني بالشأن أكثر من عائق نذكر منها ما يلي:
1 ـ قدرة المقاومة واستعداداتها لمواجهة الاجتياح ـ العدوان على رفح، حيث انّ المقاومة وضعت في كل سيناريوات المواجهة احتمال هذا الاجتياح وخططت لمواجهته مستفيدة من خبرة حصلتها في مواجهة العدو خلال الأشهر السبعة المنصرمة، ويُضاف اليها تحشيد نوعي خاص في رفح نظراً لخصوصية المنطقة وأهميتها، ولذلك نعتبر ما توعّدت به المقاومة من أنّ اجتياح رفح لن يكون نزهة للعدو هو وعيد وتهديد في محله.
2 ـ كثافة المدنيين الفلسطينيين في المنطقة، اذ رغم ما يقوم عليه الموقف الإسرائيلي من عدم اكتراث بمصير أكثر من مليون فلسطيني في رفح فإنّ سلامة هؤلاء وحياتهم باتت في دائرة التعقب والمراقب من قبل القوى الدولية التي باتت تظهر اهتماماً غير مسبوق بما يجري، ولن يكون نتنياهو طليق اليد وهو يرتكب جريمة الإبادة الجماعية بحق مدنيين لن يستطيع إخراجهم من المنطقة بسهولة.
3 ـ ورقة الأسرى الإسرائيليين وفيهم من يحمل الجنسية الأميركية أيضاً، هؤلاء الأسرى الذين يظنّ أنهم في معظمهم إن لم يكونوا جميعاً في منطقة رفح المستهدفة بالقصف والاجتياح، وبالتالي ستكون حياتهم في خطر محتم لن يستطيع نتنياهو وجيشه المعتدي المهاجم قادراً على تجاوز وضعهم.
4 ـ ضغط إضافي محتمل صدوره عن الجبهات المساندة خاصة من جنوب لبنان واليمن وقد سجل نموذجاً منه في المطلة في شمال فلسطين المحتلة التي شهدت عملية عسكرية نوعية لتفجير طائرة مُسيّرة قتلت ضابطين «إسرائيليين» وتسبّبت بفتح تحقيق واسع لتحديد سبب الفشل في الاعتراض والمواجهة.
5 ـ احتراف المقاومة الفلسطينية وذكاؤها في إدارة التفاوض، ولذلك لا نتوقع أن تقدم على موقف يستفيد منه العدو ولن تقدّم له هدية الخروج من التفاوض لتخرجه من مأزقه…
هذه العوائق ستمنع «إسرائيل» من تحقيق أهداف عدوانها على رفح وستكون حائلاً أيضاً أمامها للذهاب بعيداً في هذا العدوان خاصة أنّ الموقف الأميركي من صفقة التسوية من قبيل ما لا يمكن تجاهله، وستجد «إسرائيل» نفسها وبعد ان فشلت طيلة سبعة أشهر في تحقيق أهداف عدوانها على غزة وكان وضعها العسكريّ والسياسي والدعم الدولي لصالحها بشكل أكبر بكثير مما هو عليه الآن، ستجد نفسها اليوم في وضع لا يمكنها من النجاح في عملية رفح، لا بل ستكون في وضع تخسر فيه ورقة رفح وستضطر بعد فترة لا تتعدّى الأسابيع الخمسة مضطرة للتسليم بالعجز والمضطرة للخضوع لضغط الميدان والسياسة والضغط الدولي، وبشكل خاص الأميركي، والإقرار الضمني بأنّ حربها على غزة أخفقت وجلّ ما حققت منها هو ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والتدمير الذي قامت به. أما الأهداف الاستراتيجية فقد بقيت بعيدة عن متناول اليد، لذا ستبقى تعوّل على الدور الأميركي لإيجاد المخرج من المأزق وحجب سلبيات العدوان ما أمكن ومنحها القدرات على الاستمرار إذ بدون أميركا لا بقاء لـ «إسرائيل» في الوجود، كما بات مؤكداً…
العميد د. أمين محمد حطيط ـ البناء
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً