مقالات مختارة
– إذا كان إعلان قبول حركة حماس بالمقترح الذي قدّمه لها الوسيطان المصري والقطري قد أثار التساؤلات حول ما إذا كانت حماس قد قدّمت تنازلات جوهرية عن موقفها المبدئي تحت تأثير الضغوط، خصوصاً التهديد بمعركة رفح، والتهديد بإغلاق مكاتبها وإخراج قادتها من الدول التي تستضيفها، وفي طليعتها قطر، إلا أن المسار الذي سلكه التفاوض، خصوصاً الإعلان الاسرائيلي عن رفض المقترح الذي قبلته حماس والقول إنه غير المقترح الذي سبق واطلعت عليه حكومة كيان الاحتلال، من جهة. وما تبين بوضوح مع نشر نص المقترح الذي قبلته حماس، وحجم الفروق بينه وبين النص الأصلي للمقترح التفاوضي، وحجم ما تضمنه من اقتراب من شروط المقاومة إلى حد التطابق، قطع الشك باليقين بأن حماس ربحت معركة التفاوض بمثل ما ربحت معركة الميدان وبمثل ما ربحت معركة الرواية التاريخية لقضية فلسطين والرواية الراهنة لطوفان الأقصى وحرب غزة.
– الأكيد أيضاً أن لا وجود لنص مصري قطري دون موافقة أميركية، وهذا ليس انتقاصاً من دور مصر وقطر، بل لأن ذلك ما تفرضه أصول دور الوسطاء الجماعي من جهة، ومكانة أميركا في تمثيل السقف الذي يمكن لكيان الاحتلال تقبّله في فريق الوسطاء، بمثل ما يفترض أن مصر وقطر تمثلان في تقدير العروض التفاوضية السقف الذي يمكن للمقاومة تقبله، من جهة مقابلة، ما يجعل عدم الشراكة الأميركية استحالة. وهذا ما يؤكده عدم صدور أي موقف أميركي يقول إن مدير المخابرات الأميركية وليم بيرنز المقيم في الدوحة منذ أيام، لم يكن شريكاً في المقترح الذي قدمته مصر وقطر لحركة حماس. أما سياسياً، فإن الأرجح هو أن النص هو ترجمة مصرية قطرية لآخر محاولة أميركية لإدخال تعديلات على المقترح الأصلي لملاقاة أبرز تحفظات حماس، كتعبير عن حرص أميركيّ شديد على إنقاذ العمليّة التفاوضيّة.
– هنا نأتي إلى عناصر التفوق التفاوضي لحركة حماس، وأولها أن حماس تتفوّق أخلاقياً على حكومة بنيامين نتنياهو لجهة إخلاصها لفكرة إنجاح المسار التفاوضي. فهي لا تفاوض لتقطيع الوقت وخلق الذرائع لإفشال المفاوضات، ولا تفاوض لإبعاد مسؤولية الفشل عن ظهرها، بل تفاوض بنية صادقة للتوصل إلى اتفاق، من موقع مسؤوليتها عن شعبها وتضحياته وقضيته المحقة والمشروعة، ولذلك فهي تدرس كل كلمة وكل مقترح بهذه العين، وتفحص كل تعديل بهذا المعيار، فترفض وتستعدّ لتحمل تبعات الرفض حتى لو كانت العودة الى الحرب، عندما تجد أن في القبول تفريطاً بحقوق أو تضحيات. وتسعى بالمقابل لتدوير الزوايا وتفكيك المطبات والفخاخ وتجزئة المشاكل على الزمن، عندما ترى أن في ذلك فرصة لتجنب فشل المفاوضات.
– تفوّقت حركة حماس لأن وراءها شعباً ومقاومة يجسّدان ما تتحدّث عنه الأساطير في القدرة على البطولة والصبر وتحقيق المعجزات. فهي تسند ظهرها إلى جبل من القوة غير قابل للكسر وغير قابل للعصر، فلا الضغوط تنفع أو تُجدي لإضعاف هذا الجبل، ولا المكاسرة تفيد، ولذلك فإن حركة حماس لا تُقيم حسابات مثل التي تقيمها حكومة نتنياهو لتوازنات السياسات والمصالح بين المكوّنات، أو مدى القدرة على تمرير الموقف مع تلاوين شارع موزّع بين أولويّة صفقة تُعيد الأسرى وأولوية مواصلة الحرب، أو الحسابات الشخصية لرئيس الحكومة القلق على مصيره السياسي والشخصي والمستعدّ لأخذ الكيان الى الهاوية ما دام ذلك يضمن له إزالة تهديد المساءلة والسقوط وصولاً الى خطر الملاحقة القضائية. فالذي يحرّك حماس شيء واحد هو التزامها وقضيتها، وقد قدم رئيس مكتبها السياسي ثلاثة من أبنائه وبعض أحفاده شهداء قبل أيام، وحماس مستندة بثقة الى مقاومتها وشعبها لا يساورها في قدرة الصمود قلق.
– تفوّقت حماس لأنها تمكنت بفضل صمود شعبها ومقاومتها من إفشال خطة الحرب الإسرائيلية وحوّلتها من تحد الى فرصة، وصدّرت عائداتها السلبية إلى داخل الكيان فشلاً وأزمات، فخلقت توازنات بينها وبين الكيان يختلّ لصالحها بوضوح، وتفوقت لأنها حازت دعماً لا حدود له من محور المقاومة الذي أربك حسابات الكيان ومن خلفه الحسابات الأميركية، وتحدّى قردة الردع لكل منهما، وتسبب لهما بالأزمات التي لا حلول لها، والتي لا قدرة على التأقلم معها، متقدماً بإخلاص بمعادلة ذهبيّة مزدوجة، لا تهدئة في أي جبهة إسناد إلا إذا سبقتها التهدئة في غزة، وحركة حماس تفاوض نيابة عن محور المقاومة مجتمعاً، وجاء الرد الإيرانيّ الرادع تأكيداً ملموساً على أن محور المقاومة جاهز للذهاب إلى مخاطر الحرب الكبرى إذا اقتضت حماية غزة ذلك. وهذا وضع الأميركي بين خيارين، الاستعداد لتحمّل تبعات الانزلاق للحرب الكبرى إذا سار وراء شهوات نتنياهو، كما كان سيحدث لو سمحت واشنطن برد “إسرائيل” وفق ما يشتهي نتنياهو بعد الردّ الايراني الرادع، أو الذهاب الى التفاوض بنية مخلصة للتوصل إلى اتفاق ينهي حرب غزة، فتنتهي كل حالات التوتر والتصعيد والخطر التي اشتعلت في المنطقة.
– تفوّقت حماس لأنها، وهي تقرأ كل هذه العناصر، تتقن فن التفاوض وحرفة النصوص التفاوضية، وكيف تستثمر على ما يستفز مجانين الكيان، وربما دون أن ينتبه لذلك الأميركي، كما تحدث بعض خبراء الكيان عن شخصيّة المفاوضين الخارجين من سجون الاحتلال، وهذا حال أغلب قادة حماس. والحديث الإسرائيلي الدائم عن قائد حركة حماس في غزة يحيى السنوار، كما تعرف معنى أن التضامن الأعمى لواشنطن مع تل أبيب لا يمثل مظلة كافية لأخذ واشنطن إلى حرب على توقيت تل أبيب، وأن إيصال الأمور الى هذا الحد من الخطر يشكل ما تمثله درجة الغليان في تحوّل الماء من سائل إلى بخار.
– بركات تضحيات ودماء أطفال ونساء وأبطال غزة لم تغب عن صناعة هذا التفوّق بكل تأكيد، حتى صح القول إن ما فعلته حماس كان في التوقيت والشكل والمضمون ضربة معلم.
ناصر قنديل ـ البناء
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً