مقالات مختارة
بشكل فاجأ البعض أعلن العدو الصهيوني أنه قرّر سحب معظم قواته من منطقة خان يونس ومناطق أخرى في وسط قطاع غزة وشماله مع الإبقاء على وجود عسكري عملاني قتالي في وادي غزة بشكل يقطع فيه شمال القطاع عن وسطه وجنوبه وبطريقة تمكنه من التحكم بحركة الانتقال في القطاع من الجنوب الى الشمال، خاصة أنّ العدو يتمسك بخطة تحويل شمال القطاع منطقة أمنية عازلة خالية من الوجود السكاني فيها من أجل تأمين مصالح الأمن والحماية للمستوطنات الصهيونيّة في غلاف غزة، ومع هذا الإعلان ـ إعلان الانسحاب ـ طرحت الأسئلة حول الدوافع والأسباب التي جعلت جيش العدو يُقدم على هذا التصرّف.
في المبادئ والقواعد العسكرية يخرج التشكيل القتالي من الميدان عندما ينجز مهمته. وهذا هو الوضع الطبيعي، أو يُسحب عندما يفشل في تنفيذ المهمة ويخفق في تحقيق الإنجاز العسكري المطلوب وتنزل به خسائر تمنعه من متابعة القتال عندها يتمّ إخراجه من الميدان من أجل سدّ النقص في العديد والتجهيز وإعادة التنظيم وإعادة التأهيل. ويمكن أن يُسحب التشكيل أيضاً لأسباب أخرى تتصل بوقائع الميدان وظروفه. وهنا يطرح السؤال عن أيّ من هذه الحالات تنطبق على وضع جيش العدو الإسرائيلي في غزة بشكل أملى انسحابه من معظم القطاع؟
في تحليل للوقائع والظروف التي تمّ عبرها سحب الجيش الصهيوني من معظم قطاع غزة يمكن للباحث أن يتبيّن أولاً أنّ الجيش الصهيوني لم ينجز المهمة المحدّدة بتحقيق الأهداف الثلاثة المعلنة (تحرير الأسرى وتفكيك المقاومة، وتغيير خريطة القطاع الديمغرافية)، وبالتالي يقتضي البحث عن الأسباب في مكان آخر غير إنجاز المهمة. وهنا يمكن أن نجد هذه الأسباب في واحد أو أكثر من الاحتمالات التالية:
1 ـ الاحتمال الأول. ونراه ربطاً بالمفاوضات غير المباشرة بين “إسرائيل” والمقاومة الفلسطينية تلك المفاوضات الجارية برعاية ووساطة ثلاثيّة تقوم بها أميركا ومصر وقطر للوصول إلى صفقة تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، حيث إنّ المقاومة الفلسطينية ترفض الموافقة على أيّ صيغة حلّ أو أيّ مقترح حلّ لا يتضمّن انسحاباً تاماً من قطاع غزة سواء في ذلك تمّ الانسحاب دفعة واحدة او على مراحل. فالمهمّ أن يكتمل الانسحاب وبضمانة من الوسطاء. وهنا تخشى “إسرائيل” أن تُجبر في النهاية على الرضوخ للمطلب الفلسطيني ويشكل الرضوخ هذا هزيمة إضافية للعدو الذي فشل في إنجاز المهمة العسكرية ثم يرضخ الآن لمطالب المقاومة، ولذلك وحتى يتملص من هذه الهزيمة فإنّه يعلن انسحاباً يبرّره بأسباب يحدّدها تجنّبه الرضوخ والإقرار بالهزيمة الأساس.
2 ـ الاحتمال الثاني ويتشكّل من واقع القوى المنسحبة وحجم الخسائر التي أنزلتها المقاومة بها، حيث إنه خلال 72 ساعة سبقت قرار الانسحاب بلغت خسائر العدو في مواجهات وكمائن خاصة في خان يونس، 12 قتيلاً من العسكريين معظمهم من الضباط. وهنا نتذكر ما حلّ بلواء جولاني سابقاً والذي سحب من شمال قطاع غزة وأدخل في معسكر تدريب وتأهيل بعد إعادة التنظيم وسدّ النقص بالقوى البشريّة. وقد تكون القوى التي سحبت من خان يونس وبعد الخسائر التي حلّت بها بحاجة الى عملية تأهيل وإعادة تنظيم مماثلة.
3 ـ الاحتمال الثالث: وهو ما أعلنه غالنت وردّده نتنياهو وهو التحضير لعملية اجتياح رفح والجهوز لمتطلبات المواجهة في جبهة الشمال مع ما تحتمل من دخول في حرب واسعة وشاملة مع المقاومة في لبنان. وفي هذا الأمر نتوقف عند قول نتنياهو بأنّ قرار اجتياح رفح اتخذ، كما وقول غالنت بأنّ الجيش الإسرائيلي في شمال فلسطين المحتلة انتقل من الدفاع الى الهجوم، ملوّحاً بنية “إسرائيل” الذهاب الى حرب واسعة في الشمال، وطبعاً تكون هذه الحرب كما ستكون عملية اجتياح رفح بحاجة الى قوى بقدر يمكنها من تنفيذ المهمة، ولذلك تقرّر سحب هذه القوى من قطاع غزة مصحوباً بادّعاء بأنها أنجزت مهمتها هناك. وهنا نرى أنّ هذا الزعم لا يملك عناصر جدّية تجعله مقبولاً يبرّر الفعل. فالقوى المنسحبة غير مؤهّلة للدخول في الميدان مجدّداً خاصة إذا كان الميدان من طبيعة ما هو قائم في رفح أو ما ينتظره في لبنان الذي أعلنت المقاومة فيه أنها خلال ستة أشهر من عملياتها في إطار الحرب المقيّدة والقيام بإسناد غزة، لم تجد حاجة لاستعمال سلاحها الأساسيّ وقواها الرئيسية وأنها تقول لهذه الحرب التي يهدّد بها العدو “يا هلا ومرحب”، تقول ذلك لأنها واثقة من قدرتها التي تمكنها من إنزال الهزيمة المنكرة بالعدو الصهيوني.
بين هذه الاحتمالات نرى أنّ الاحتمالين الأول والثاني هما الأقرب الى المنطق في تبرير انسحاب جيش العدو من منطقة خان يونس. ونرى انّ هذا الانسحاب الذي يتمّ من غير تحقيق أهداف العدوان والهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة إنما هو إقرار صهيوني بالهزيمة أمام المقاومة الفلسطينية التي صمدت وقاومت طيلة الأشهر الستة الماضية في حرب هي من الحروب الأطول في تاريخ الصراع مع الصهيونيّة، حرب تتحضّر لتضع أوزارها وتخط بشكل أو بآخر سطوراً مضيئة في كتاب نهاية “إسرائيل” التي تتلقى الآن هزائم مركبة من طبيعة استراتيجية وعملانيّة، إذ انها فضلاً عما آل اليه وضعها دولياً، من تردّ وعدم نجاحها في عدوانها ترى المقاومة ومحورها ينجحان في إعادة قضية فلسطين لتحتلّ الموقع المميّز دولياً بعد أن عملت “إسرائيل” على طمسها وتصفيتها.
العميد د. أمين محمد حطيط ـ البناء
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً