مقالات مختارة
مع بداية النصف الثاني من عام حرب الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، يرتسم مشهد استراتيجي فوق الركام والشهداء من جهة، وفوق هزيمة إسرائيلية تبدو أعمق مما يعترف به العالم، حتى اللحظة.
جنون الاحتلال تخطى القتل بدم بارد وبصورةٍ عبثية، ليصل حد تجاوز كل مناشدات العالم بمنظماته ودوله وشعوبه ورموزه الدينية والخيرية… والإصرار على القتل العمومي المستمر، وأكثر من ذلك، وصل حدّ قصف سفارة دولة ذات سيادة على أرض دولة أخرى ذات سيادة، ومنزل السفير، وقتل مستشارين يعملون في إطار رسمي محصن قانونياً باتفاقيات ومعاهدات دولية هي جزء من القانون الدولي العام. وعلى الرغم من الإدانات الواسعة حول العالم لهذا العمل الغريب عن تقاليد العلاقات الدولية، تخرج الولايات المتحدة لتقول إنها سمعت بالأمر، وتنتظر من الكيان نفسه معلومات إضافية.
هاجمت "إسرائيل" إذاً بصورةٍ مباشرة السفارة الإيرانية لدى دمشق، وقتلت 14 شخصاً، بينهم سبعة إيرانيين. ومع حسم إيران قرارها بالرد الحتمي على هذه الجريمة، انتقل البحث إلى دراسة ظروف ما بعد الرد.
يحتاج الرد هذا بالطبع إلى وقتٍ وحكمة، وحسابات دقيقة تضمن أن يؤدي إلى تعقيد موقف العدو، لا إلى إعادة المبادرة إليه، ومساعدته على النجاة من مأزقٍ تاريخي وقع فيه.
وهذا المأزق أدى حتى الآن إلى فقدانه الصورة التي يبنيها منذ 75 عاماً عن نفسه، على أنه "دولة" قادرة على الاندماج في المجتمع الدولي، وممارسة أعمال "الدولة".
الآن، يظهر وجه الكيان الحقيقي الذي يتغذى على أفعال الانتقام، التي تمارسها عصابات الجريمة، ومنظمات الإرهاب. وهو في حين كان يسعى إلى تعميم صورته كـ"دولة" مستقلة قادرة على العيش مع شعوب المنطقة، يظهر الآن بالصورة الأصلية له، وهي أنه بني ويعيش على قتل هذه الشعوب، وأنه يكن لها عداءً عنصرياً متجذراً لا يمكن إخفاؤه في أي استحقاق.
علماً أنه يمارس الجريمة المنظمة منذ التأسيس، لكن المختلف الآن أنه يمارسها بعشوائية، وتقريباً من دون غطاءٍ متماسك ومنظم على مستوى العلاقات العامة والدعاية. لقد هزم الكيان شر هزيمة على هذا المستوى، وهو في المستقبل المتبقي له، سيعاني بشدة من أجل السعي إلى استعادة الصورة التي تساعده على تعميمها الولايات المتحدة ومعظم العالم الغربي، وكارتيلات الإعلام العالمي الممسوكة بصورةٍ واضحة من هذه الدول وبعض شركاتها العالمية.
أظهرت هذه الحرب، وجرائم الاحتلال المستمرة معها، حقيقة الإعلام العالمي، مع بعض النقاط المضيئة التي برزت من أفرادٍ في هذا العالم، لا من مؤسسات. في حين شكلت منصات الإعلام البديل مساحةً مناسبة لمؤيدي القضية الفلسطينية ومناهضي الجرائم ضد الإنسانية أينما كانوا، من أجل أن يعبّروا عن مواقفهم المشرفة، ويدعموا الحق الذي لم يكن واضحاً في قضية دولية كما هو اليوم بالتحديد في الحالة الفلسطينية.
وبالنسبة إلى الرد، فإن مرور الوقت يزيد من الضغوط على الكيان، ويوسع مساحة انعدام اليقين التي تمر بها حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة، ويزيد القلق الداخلي الوجودي لدى مجتمع مشحون بالكراهية والرغبة في القتل على أساس عنصري وديني، مع انخفاض الثقة بالقيادة السياسية هناك على استعادة الردع، أو تحقيق النصر.
ثم إن مزيداً من الوقت مطلوب للتأكد من إقفال هذه النقطة بعد الرد، مع استمرار الجولة الحالية. لأن هذه النقطة تحديداً (التي يمثلها حدث جلل كقصف سفارة) لها طبيعة خاصة معنوية، أي أنها تكسب الرابح بها تفوقاً معنوياً قد يحسم الجولة بسرعة، وربما المواجهة كلها، بموازاة المعجزة القائمة في غزة.
هذه المعجزة التي تعبّر عن نفسها، ولا تكفي الكلمات لتظهير جوانبها المشرفة والبطولية. معجزة أن يدمر كل شيء فوق رأسك، ثم تقوم من تحت الأنقاض لتطلق صاروخاً أو تخوض اشتباكاً، بل لتنصب كميناً محكماً مثل كمين الزنة، بعد نصف عام سقط خلالها فوق رأسك ما يوازي أربع قنابل نووية قادرة على إبادة الحجر قبل البشر.
ثم أبعد من ذلك، تتمظهر المعجزة بأن تحافظ بعد كل هذا الجحيم المصبوب عليك وعلى شعبك وكل من تحب، من الأطفال والشيوخ والنساء والرجال والشوارع والبيوت والذكريات والثقافة وغيرها… أن تحافظ على إرادتك صافيةً سليمة شديدة الإيمان، وبشروطك كما كانت في اليوم الأول. لا عودة للأسرى من دون اتفاق يفضي إلى إطلاق الأسرى الفلسطينيين، ووقف دائم وشامل لإطلاق النار، وانسحاب كامل لجنود الاحتلال من القطاع، وإدخال المساعدات إلى الشعب الفلسطيني في غزة، والتزام بإعادة الإعمار. هذا البند الأخير زاد على الشروط السابقة التي بدأت بها المقاومة الحرب. أي أنها لم تتمسك بموقفها فحسب، بل زادت شرطاً أفرزته الحرب، في صورةٍ أسطورية من صور صمود الشعوب وحركات التحرر الوطني.
وإذا كان الرد الإيراني موجعاً جداً وبضربة واحدة كبيرة، ستقفل نقطة من المبارزة بمباركةٍ أميركية. ذلك أن الخيار الآخر سيعني الدمار الموسع والمتبادل، والذي بنتيجته يخرج من المنطقة من ليس منها.
تدرك الإدارة الأميركية ذلك جيداً، وهي مع تكشف القدرات التي تمتلكها دول وفصائل محور المقاومة، والانعكاسات الكبرى التي تحدثها عملياتها الحالية، أصبحت تستطيع أن تجري محاكاتها على حربٍ إقليمية موسعة، ولا ضير في استشارة الذكاء الاصطناعي عن نتيجة تلك المحاكاة، إذا كان الذكاء الطبيعي قد أصبح نادراً في معسكر أعداء شعوب المنطقة.
الصورة تنقلب بهذا العمل مرة جديدة. تطورات الأيام الناضبة غيّرت اتجاه الأحداث في المنطقة. الضربة الإسرائيلية قد تكون حققت هدفاً تكتيكياً مهماً لضباط الاستخبارات والقوات الجوية بقتل شخصية (أو شخصيات) من قادة محور المقاومة، وتتحرّق لتحقق ضربة ناجحة بالتخلص منهم. لكنها ليست كذلك للقادة السياسيين الذين يديرون "حرب وجود" باعترافهم وتقديرهم.
هؤلاء، أو من يفكر من ورائهم، لا بد أنهم سيدركون حجم الحماقة التي أقدموا عليها، ومستوى التهور الذي بلغوه في اختيار الخطوات التي يقومون بها في حربٍ كهذه. ولو كانت حال شعوب المنطقة أفضل، والخسائر ليست بهذه الصورة الكارثية، لتمنى المناصر للقضية الفلسطينية أن يبقى قادة الاحتلال بهذا المستوى من انعدام الرؤية، لأن في ذلك مقتل لمشروعهم الاستعماري في المنطقة، ولنفوذ وحضور داعميهم فيها. لكن التمني ينحاز دائماً إلى أولوية رفع المعاناة الإنسانية عن الناس، ومواصلة العمل على مشروع تفكيك هذا المرض الذي زرع في جسد المنطقة.
الضربة الإسرائيلية جاءت فوق القانون الدولي برمته، وهي بهذه الصورة أوضح دليل على الرؤية المشوشة، وهي بدلاً من أن توفر شعورا ًبالقوة والثقة للداخل الإسرائيلي، أحدثت قلقاً عظيماً من مصدرين:
⁃ ارتقاب رد إيراني موجع، من دون معرفة مكانه وزمانه وأدواته وطبيعة أهدافه، ومداه، وأهم من كل ذلك أفقه، أي ما إذا سيكون رداً مفرداً تعود بعده الضوابط وقواعد الاشتباك إلى العمل، أم سيكون بداية سياق جديد.
⁃ اكتشاف القارئين الجيدين داخل الكيان أن الضربة لم تكن واعية، بمعنى أنها ليست قطعة مختارة داخل صورة مكتملة لصانع القرار الذي بادر إلى الدفع بهذا الحجر على الرقعة.
الرد الإيراني المؤلم عندما يحصل سوف يفيد بإظهار نتنياهو مرة أخرى كمدير أرعن للقوة. وكقائد دموي يضرب من دون يقين بنتيجة الضربات، خصوصاً البعيدة المدى منها. فهو في هذه الحرب ظهر كقاتل شره من دون أن يتمكن من تظهير صورة المقاتل الذي لطالما سعت "إسرائيل" إلى إظهار قادتها على صورته الخيالية.
وهذه الضربة أدت إلى تحول في المشهد، وتحديداً في دينامية الوقت التي باتت مضرة لنتنياهو، بعد أن كانت تخدمه في الأسابيع الأخيرة تحديداً. وهو الذي يريد أن يصمد حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، ليحقق خلال الفترة الفاصلة أحد هدفين:
⁃تدمير حماس نهائياً. أو ⁃إدخال أميركا الحرب.
لكن ضربته في دمشق غيرت كل كيمياء الأحداث، وأفقدته المبادرة، ووضعته وحلفاءه في موقف المنتظر لضربة لا يعرف الكثير عنها.
هناك أيضاً مؤشرات جديدة، تبدو لافتةً وخافتة في الوقت نفسه تظهر أن أوراق القوة المفيدة لدى المقاومة في غزة، محميةٌ وبعيدة من الخطر. وهذا أيضاً ما أظهر بعض جوانبه كمين الزنة عند تمام مرور الأشهر الستة على بداية الحرب، والذي بما يمكن نشره من تفاصيله، كشف عن قدرةٍ عالية على الرصد والاستعلام والتخطيط والتحرك والتنفيذ، وتحقيق النتيجة المثلى من العمل العسكري المقاوم، وبأفضل ما يمكن توقعه.
ثم إن خطوة "إسرائيل" بضرب السفارة الإيرانية لدى دمشق، وما تبعها من تطورات وانتظارات، أظهرت أكثر من أي وقت مضى أن احتمالات الحرب الواسعة لن تغيّر المنطقة فحسب، بل إن ضحاياها ستكون اقتصادات مجموعة كبيرة جداً من الدول، كثيرة منها خارج المنطقة.
وأن مصير الاقتصاد العالمي معقود الآن على احتمالات الشرق الأوسط، كخطرٍ داهم. هذا أيضاً ما أظهرته عمليات اليمنيين المقاومين في البحر الأحمر، وأبعد منه.
وللمفارقة التي يجب على العالم قراءتها بدقة، فإن أنصار الله اليمنيين يلتزمون القانون الدولي في أعمالهم، ولا يستهدفون من السفن سوى من له علاقة بأعمال الإبادة الإسرائيلية، وهو ما يقع وفق نظرة العدالة التي تنطلق منها معاهدات القانون الدولي، تحت بند الرد المشروع والمتناسب على أعمال حربية، كون اليمنيون والفلسطينيون ينتمون إلى أمة واحدة وفي إطار جامعة عربية واحدة، يجب أن تتحرك هي كوحدةٍ سياسية جامعة للعرب في ظروف مثل هذه، وليس كمنظمة إقليمية فقط.
فالقواعد الدولية تتحرك الآن، ومن يمتلك القوة يفرض الوضعية التي تناسبه، هكذا فعل الروس في أوكرانيا، وهكذا يتعامل الغربيون مع روسيا والصين وإيران وغيرها من القوى، وهكذا أيضاً فعل دونالد ترامب حين تجاوز كل منطق دولي وأراد الاعتراف بالاحتلال الإسرائيلي للجولان العربي السوري المحتل، وأيضاً بالقدس كعاصمة للكيان، وغير ذلك من الأعمال الدالة في الاتجاه نفسه…
كل ذلك يقود بما يخص الكيان إلى أن نتنياهو انتحر سياسياً مرة جديدة في ضربة القنصلية. وقرّب نفسه والكيان من هزيمة تبدو محققة. وكل الإشارات تدل عليها، حتى صحيفة "هآرتس" باتت تعترف بما يحدث الآن للكيان، ففيها كتب الصحفي الإسرائيلي "حاييم ليفينسون" معترفاً بأنه "لا يمكن قول هذا، لكنّنا هُزمنا هزيمة مطلقة… خسرنا، خسرنا الحرب، وهذا الاستنتاج الواضح لكل مستوطن، ولدينا صعوبة نفسية وجماعية في الاعتراف بذلك". ويتابع القول: "أمامنا واقع واضح وحاد، مطلوب أن نبدأ في الهضم واستخلاص العبر".
الرد الإيراني سيحدث، فضربة نتنياهو للقنصلية في دمشق أفقدته المبادرة، وكل الظروف الأخرى تؤيد أن اللحظة تمثل فرصة ثمينة لإيران للرد بقسوة، لكن بحساب ما يمكن لواشنطن أن تمتصه، ولا تضطر معه إلى الانخراط في الصراع بصورةٍ مباشرة.
لأن الطرفين لا يبدوان راغبين في الحرب الموسعة، كلٌ لأسبابه. فبالنسبة إلى إيران هي لا تريد إعطاء نتنياهو فرصة لإنقاذ نفسه وإنقاذ الكيان بتوسيع الرقعة وإطالة زمن الحرب واستدعاء واشنطن إليها، في حين أن التطور الطبيعي للمشهد لا يخدم "إسرائيل" وأميركا. ثم بسبب الخسائر والمعاناة الإنسانية للفلسطينيين، وضرورة خروجهم من الحرب لاستعادة عافيتهم والبناء من جديد.
أما بالنسبة إلى الأميركيين، ففوق رؤوسهم جبال من المشكلات التي قد لا تسمح لهم بالخروج إلى العالم كقوى عظمى مهيمنة مرة أخرى. فأزمات أميركا بالحجم والتناسب ليست أقل من أزمة "إسرائيل" الوجودية، فيما لو قيست الاحتمالات القائمة. ثم، لماذا القتال عن نتنياهو؟
ومن معالم الفرصة الآن، أن "الجيش" الإسرائيلي لا يستطيع دخول الحرب الموسعة وحده. هذا أمر محسوم. وهو فضلاً عن ذلك، منهك ولا يمكنه التعبئة على المدى الطويل، على الرغم من أنه امتلك في الحرب الحالية خاصيتين جديدتين، وهما: القابلية لخوض الحروب الطويلة وتحمل الخسائر البشرية.
وبايدن تحديداً لا يريد الحرب الموسعة. ولن يدخلها إلا مضطراً بما لا يمكن تجنبه. فحساباته مرتبطة بالانتخابات، أوكرانيا، الأزمة الاقتصادية وشح الموارد، واقتراب المواجهة مع الصين…
من جهة أخرى، تمتلك إيران الذريعة المشروعة بالرد المتناسب على جريمة قصف السفارة في دمشق، بسبب انتهاك "إسرائيل" معاهدات فيينا التي تنظم العلاقات الدبلوماسية والقنصلية وحصانات الدبلوماسيين والمقار (1961، 1963، 1969) ونظام روما الأساسي.
وتبدو من بين كل هذه المعطيات ضرورة استغلال اللحظة الإعلامية التي تظهر قصف "دولة" لسفارة دولة ذات سيادة، في دولة ثالثة ذات سيادة، بصورةٍ علنية ومباشرة. وهو ما لم تشهده العلاقات الدولية، ولم تمارسه سوى التنظيمات الإرهابية أو الثورات الشعبية.
هذا بالنسبة إلى الفرصة، لكن حسابات طهران تأخذ في الاعتبار التهديد أيضاً، وأهم نقطة فيه، أن لا يجرها هذا الاستفزاز إلى ردٍ لا يمكن لواشنطن السكوت عنه، وبالتالي تحقيق حلم نتنياهو بإدخال أميركا الحرب ضد إيران، لتحارب عنه. الرد سيحصل، ضمن هذه الضوابط. بحسب ما برز من معطيات في الأيام الأخيرة، فإن أي انخراط أميركي مع "إسرائيل"، أو محاولة منع الرد عليها، سيجعل من مصالح أميركا أيضاً هدفاً للرد.
ربما يفسر ذلك المسارعة الأميركية إلى لجم نتنياهو، أو على الأقل إشاعة هذه الأجواء عن مكالمة بايدن ونتنياهو بعد الضربة، ومحاولة واشنطن تسريع وتيرة المفاوضات لوقف الحرب، وتعميم خطاب إعلامي بات يدعو بصورةٍ مباشرة إلى وقف الحرب.
وهذا المسار له نهاية واحدة منطقية بحسب المجريات الحالية. توقف الحرب من دون تحقيق أهداف الاحتلال، وتحقق الشروط التي وضعتها المقاومة. وهزيمة مدوية لـ"إسرائيل" من جهة، مع ظهور القدرة الأميركية على ضبط أحداث العالم كما لم تظهر من قبل. ضعيفة ومترددة، وخاسرة في محصلة المشهد الكامل.
نور الدين اسكندر ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً