مقالات مختارة
شهد ميدان الضفة، مع أيام رمضان، تطوّرات نوعية في الأداء القتالي لشبانها في مواجهة "جيش" الاحتلال، وإن لم يكسر هذا التطوّر عتبة العمل النخبوي أو الفردي في عموم الضفة، رغم تميّز حالة المواجهة في منطقتي جنين وطولكرم، في وقت تجاوز عدد قوات الاحتلال العاملة في الضفة مثيلتها في غزة أو الشمال، فهل يحمل هذا التطوّر دلالات خاصة؟ أم هو مجرد حالة عابرة؟
بدأ هذا التطوّر من كمين حومش النوعي، ثم كمين عتصيون فدولف، حتى بوابة الدير، في سلسلة عمليات غلب عليها طابع مشترك، هو العمل المدروس والهادئ، في مواجهة حادّة يسودها العقل البارد، كانت ذروتها في عتصيون قرب أحراج بيت فجار قضاء بيت لحم.
جاء كمين عتصيون في تجسيد مكتمل الأركان لصراع الأدمغة بين المقاومة وجهاز المخابرات الإسرائيلي، الشاباك، وقد نجح فيه البطل الاستثنائي زياد حمران، وهو يأتي من شمال الضفة، وتحديداً من قلعتها في جنين، ليستجلب ثلاثة من ضباط هذا الجهاز، إلى حتفهم، عبر عملية خداع ذكية ودقيقة، لم تكشف تفاصيلها الكاملة حتى الآن، سوى أنه أوهمهم بالعمل معهم وتقديم معلومات استخبارية، ولكنه بدلاً من ذلك أطلق النار عليهم من مسدسه من مسافة صفر، فأوقعهم بين قتيل وجريح، حتى استشهد على يد قوة عسكرية كانت تؤمّن الحماية لهؤلاء الضباط.
ويشتهر جهاز الشاباك الإسرائيلي، بنجاحاته الواسعة في اغتيال واعتقال الآلاف من المقاومين، وإحباط الكثير من العمليات، وإسقاط المئات في حبائل الخيانة، مع إدارة مسالخ التعذيب والتحقيق في أقبية السجون الإسرائيلية، في وقت جاء فيه هذا الكمين النادر، لينعش الذاكرة بضربات نوعية سابقة، وجّه فيها عقل المقاومة هزيمة مدوّية لجهاز الشاباك، كان أشهرها العملية التي نفّذها الاستشهادي مراد أبو العسل من عنبتا، بتوجيه من قائد سرايا القدس إياد صوالحة، والتي فجّر فيها مراد جسده باثنين من ضباط الشاباك، وكذلك عملية البطل القسامي عبد المنعم أبو حميد، والتي قُتل فيها ضابط من الشاباك قرب مخيم الأمعري، وفي كليهما تم خداع الضباط بالعمالة معهم.
أحدث كمين عتصيون، والذي تبنّته كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس، زلزالاً في جهاز الشاباك، وهو ما سرّع لجوءه لاغتيال أربعة من كوادر الكتيبة عبر سلاح الجوّ، وقد فشل في الوصول إليهم عبر عشرات التوغّلات التي واجهتها الكتيبة بالتصدّي، وكان أبرزها التصدّي في الأيام الأولى من شهر رمضان، عبر عبوات ناسفة ضخمة دمّرت آليتين وجرّافة، وهو ما حصل أيضاً في طولكرم عدة مرات في أيام رمضان، بما أوقع إصابات محقّقة في صفوف "الجيش" وجرّافاته وآلياته، وتخلّلته أيضاً اغتيالات من الجوّ لأعضاء الكتيبة وبعض المواطنين.
وكانت كتيبة جنين، وعبر قائدها الميداني الشهيد أحمد الهاني، استهلّت العمل النوعي بكمين محكم، ضد الموقع المستحدث في مستوطنة حومش، قرب قرية برقة، وهو الهجوم الذي بدأ بإطلاق نار تم فيه سحب القوة العسكرية من باب حومش، باتجاه أرض وعريّة تمّت زراعتها بالعبوات، وهناك تم تفجيرها بهذه القوة وقد سقطت بين قتيل وجريح، في عملية غلب عليها التخطيط البارد حتى حقّقت أهدافها وانسحب منفّذوها بسلام، ليتم الاحتفال بها عبر مكبّرات الصوت في المساجد، ثأراً لاغتيال القائد الشهيد محمد الشلبي في السيلة الحارثية قبلها بيوم واحد.
وما كاد المحتل يستيقظ من ضربة عتصيون، حتى ووجه بهجوم نوعي قرب مستوطنة دولف، في أراضي كفر نعمة غير بعيد عن رام الله، وهذه المرة عبر عملية ماراثونية فردية، تجهّز فيها العنصر السابق، والمستقيل من جهاز أمن الرئاسة، مجاهد كراجة، ببندقية وذخيرة وعبوة ناسفة، وقد قضى عدة ساعات في تجهير ميدان المعركة، الذي سحب إليه كتيبة كاملة من "جيش" الاحتلال مع سلاح الجو المسيّر والأباتشي، عبر هجوم شنّه ضد حافلة للمستوطنين على مفرق مستوطنة دولف.
خمس ساعات قاتل فيها مجاهد وحيداً، في الميدان الذي جهّز فيه ثلاثة أماكن آمنة، كان يلجأ إليها لحمايته من الرصاص والقنابل والصواريخ والطائرات الانتحارية، وقد تمكّن من قتل ضابط في وحدة الدوفدوفان من مسافة قريبة، بعد أن أصاب سبعة منهم، وتمكّن من إسقاط طائرة مسيّرة، حتى قضى شهيداً، ولكنه ترك بصمة غائرة في العقل العسكري، عبر سؤال إسرائيلي مُلحّ؛ كيف استمر في القتال كل هذه الساعات في أرض مكشوفة وإن كانت وعريّة، في مواجهة كتيبة عجزت عن إصابته، حتى قتلته طائرة الأباتشي بصاروخها الثاني؟
عقل مجاهد كراجة الهادئ بالتخطيط المحكم، والمشتعل مع حرب الإبادة في غزة، أخذ وقته ليُعْمِل عقله ويتهيّأ في منطقة تحظى بالهدوء النسبي، ولكن كيف أمكن لكتيبة طولكرم، وهي التي تواجه اجتياحات دائمة لمخيمها الصغير نور شمس، أن تجهّز كميناً في مسافة داخل أرضنا المحتلة عام 48، عبر بوابة دير الغصون؟ وهو الكمين الذي تم عبر مراقبة طويلة لمواعيد تبديل "شفتات" دوام الجنود عند البوابة، وهو ما جعلها تحتفل بالهجوم بعد ذلك مباشرة، عبر تجمّع شعبي وسط المخيم.
وفيما أعلن المحتل عن مدى وجعه من ضربات حومش وعتصيون ودولف، وكشف عن بعض خسائره، وتتبّعت وسائل إعلامه نوعية هذه الهجمات المتسلسلة، فإنه فضّل الصمت أمام ضربة بوابة الدير، والتي أوقع فيها شبان الكتيبة ضابطاً وثلاثة جنود بين قتيل وجريح، عبر هجوم من مسافة قريبة، وهم داخل سيارة إسرائيلية مدنية، ليتم ترحيل هذه الخسارة المؤلمة إلى حادث سير في منطقة أخرى.
وما يلفت النظر أن الإعلام الفلسطيني والعربي، تداول بيان كتيبة طولكرم بكثير من المصداقية والاهتمام، رغم صمت المحتل، بما يشير لانعطافة هامّة في الوعي الإعلامي، نحو سقوط الرواية الإسرائيلية في طوفان الأقصى عبر كل جبهاته من غزة والضفة حتى لبنان، إذ لم يعد معيار الانفعال الإعلامي رواية الاحتلال، وقد ثبت كذبه في عشرات المناسبات القريبة.
تميّزت دفعة هجمات الضفة حتى منتصف رمضان، بتخطيط لافت، لتحقّق نجاحات خلقت كابوساً بين المستوطنين، الذين أخذوا يوسّعون هجماتهم الهستيرية على المدنيين الفلسطينيين، خاصة في منطقتي الخليل ونابلس، وقد تسلّحوا على نطاق واسع وفق قوانين إيتمار بن غفير الجديدة، بما ينبئ عن أسابيع مقبلة ربما تحمل في طيّاتها مواجهة من نوع جديد في ميدان الضفة، باتصال أو بمعزل عن تطورات الحرب في غزة.
محمد جرادات ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً