مقالات مختارة
في تسريبات الهدف الأول منها جس نبض، أفرجت الادارة الاميركية عما سمي بوثيقة حول المسار الذي ترتأي تنفيذه بعد اليوم التالي لانتهاء حرب الإبادة الأمريكية الصهيونية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة. واضح تماما أن الدافع الأول لإصدارها هو انعدام الأفق السياسي للحرب التي دعمتها إدارة بايدن بشكل غير مسبوق كنتيجة لفشل تحقيق أهداف الحرب نفسها على كل المستويات والخوف الأميركي من اندلاع حرب إقليمية تقضي على ما تبقى من النفوذ، وهو فشل زاد من مأزق الرئيس الأميركي مع بدء الانتخابات التمهيدية الأميركية الرئاسية وامتناع العرب الأميركيين والمسلمين والذي ظهرت نتائجه كعينة أولى في انتخابات ولاية متشغن، إضافة الى الجيل الأميركي الشاب في الحزب الديمقراطي الذي تعرف الى القضية الفلسطينية لأول مرة بالبث الحي لصور أشلاء الأطفال والنساء الفلسطينيات، يقابله في المقلب "الإسرائيلي" تعميق مأزق نتنياهو الداخلي بعد فشله في تحقيق أهداف الحرب في شهرها الخامس وتلطّيه خلف القرار بتمديدها تجنبا للسؤال المحتوم حول مسؤوليته عن تداعيات عملية " طوفان الأقصى" بما يهدد بانفجار حكومته من الداخل وهو ما يبدو حتميا.
في الظاهر تهدف الوثيقة حسب واضعيها الى تأمين الأمن والاستقرار لأمد طويل في المنطقة عبر ضمان إشراك عدد من الدول في مسارات تنفيذها وإدراج مسألة التطبيع السعودي مع الكيان الصهيوني كمندرج أساسي وتتوجها بالإعلان عن دولة فلسطينية، لكن القراءة المتأنية لما بين سطور الوثيقة تقود الى حقيقة أخرى كانت ولا تزال من الثوابت الأميركية وهي ضمان أمن "اسرائيل" وتفوقها وانتزاع اعتراف سعودي بها من دون ربط التطبيع بضرورة التوصل الى حل عادل للقضية الفلسطينية ومن دون احتساب سقف زمني محدد، لا بل توهمنا الوثيقة أن بوسع الطرفين، العدو الذي ارتكب ابادة جماعية، والفلسطينيين المذبوحين، ادعاء النصر، لم يسبق ان وصفت حرب استهدفت شعبا بأكمله بمثل هذه الصفاقة، وكدفعة على الحساب فإن الوثيقة وبعد أن تذكر ان وقفا مؤقتا للنار، وليس نهائيا سيتم التوصل اليه تضع بندا إجرائيا في موعد قريب يسبق بداية شهر رمضان لتحقيق انفراج عبر تبادل الأسرى الإسرائيليين بالمعتقلين الفلسطينيين تخوفا من طوفان ايماني فلسطيني ربطا بالشهر الكريم، وتحيل مسألة التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار الى ضرورة البدء بمحادثات مثمرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتنفيذ تدابير نزع السلاح والتسريح واعادة الدمج.
تحت حجة اعادة تأهيل السلطة الفلسطينية وبين عناوين تتراوح ما بين اصلاح السلطة الفلسطينية وتنشيط الاقتصاد، وليست إشارة الوثيقة الى امتداد سلطة رام الله الى غزة إلا لتأكيد سريان مفاعيل الاجتياحات لجيش الاحتلال المتكررة اليومية وانتهاكات المستوطنين على قطاع غزة أسوة بالضفة.
تدعو الوثيقة الى إعادة صياغة الوضع الفلسطيني بما يتلاءم فقط مع المصلحة "الإسرائيلية", ففي حين تدعو الى دمج حركة حماس في التشكيل السياسي الجديد بعد اشتراط نزع سلاحها، وتحولها لحزب سياسي فإنها لا تسمح للفلسطينيين انفسهم بالقيام بذلك بل تحشر معهم نصف دزينة من الدول، تصفها الوثيقة بأنها أطراف إقليمية معنية، وهكذا سيتم الاستعانة "بأشقاء" الفلسطينيين لتأديبهم والتي ستكون مهمتهم التأكد من إتمام المهمة وفق المقاييس "الإسرائيلية"، ونلاحظ هنا إدراج مصر أحياناً ضمن الدول الإقليمية المعنية المشاركة وتغييبها أحيانا، وهو مؤشر على ما وصلت اليه النظرة الأميركية حول الدور السياسي الخارجي لمصر ربطا بالأزمات مقارنة مع قطر مثلاً، عدا عن إعطاء دور لتركيا لتنافس فيه "الأشقاء العرب" بدورهم الوظيفي ما يرتقي الى مستوى التقليل من دورهم كما بإشهار أوراق منافسيهم بوجههم، وتحدد الوثيقة ضمن عدة بنود ما الذي ينبغي على الفلسطينيين فعله بدءً من إسقاط صفة الأسرى عن المعتقلين الفلسطينيين ليتحولوا الى سجناء جنائيين واسقاطهم من الجداول المالية للسلطة، واحاول منذ الآن تصور اسم من سيتجرأ على شطب الصفة النضالية السياسية عن هؤلاء الأسرى المحتضنين من الشعب كله أو تغيير وضعهم القانوني تحت أي مسمى ولو كان مسمى الرعاية الاجتماعية، والمنتمي قسم كبير منهم الى الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها حركة فتح، ويمارس الإذلال دون مواربة عند الإشارة الى اللجنة الموكل اليها الإشراف على إعادة إعمار غزة ومن المفترض أن تتشكل من فلسطينيين مستقلين، إذ على أفرادها الخضوع لتحقيق أميركي "إسرائيلي"، ويصل الأمر للتدقيق مجددا في المناهج المدرسية الفلسطينية والتدخل في شؤون العباد الإلهية بتحديد ما يمكن لهم قراءته من سور وما يجب عليهم تجنبه.
بالمقابل لا شيء مطلوب من "الإسرائيليين" حتى ولو كان في إطار خطوات إجرائية مطلوبة من قبلهم لتسهيل إقامة الدولة الفلسطينية المنشودة ويبقى الحديث في العموميات " على إسرائيل تنفيذ تدابير ملموسة واتخاذ خطوات محسوسة من شأنها إعداد السلطة لإقامة الدولة" وهنا لم يتم ذكر أي من الملفات الشائكة التي أدت لتعطيل قيام الدولة الفلسطينية ولا تجد الوثيقة داع لتحديد ماهية الخطوات التي على "اسرائيل" القيام بها أو الإشارة الى المستوطنات حيث يفترض أن تقام الدولة وتغيب الإشارة الى وضع القدس والأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، ناهيك عن إغفال تام لموضوع اللاجئين الفلسطينيين، ويقذف بكل هذه الملفات الثقيلة الى "مفاوضات سلام" بينها وبين الفلسطينيين بدل تطبيق مقررات الأمم المتحدة او حتى مؤتمر مدريد وتجاهل تام لاتفاق أوسلو وما يعني ذلك من مسيرة فلسطينية جديدة شاقة تمتد لعقود تتغير خلالها الإدارات الأميركية وحكومات العدو، ويتم التنصل من الوثيقة بعد حين هي وصفة مستديمة لاحتلال مستديم الى الأبد بحجة تعثر المفاوضات لاحقاً.
نصف الوثيقة يتحدث عن اصلاح السلطة الفلسطينية وأجهزتها واداراتها الحكومية في تغييب للسبب السياسي المباشر ويبدو وكأنه يحمل الفلسطينيين مسؤولية ما وصلوا اليه نتيجة فساد السلطة، لا الاحتلال.
ما نستخلصه من هذه الوثيقة، هي وصفة جاهزة للانفجار القادم وستساهم مساهمة فعالة في الطوفانات الفلسطينية الجديدة، هو ما تنبئ به شروطها المذلة، وهي ببساطة محاولة للأخذ بيد ما عجزوا عن تحقيقه في الميدان بكل ما أوتو من قوة وجبروت.
بعد التضحيات الجسيمة، وبعد خمسة أشهر من القتال المستمر ينتظرون أن تتحول المقاومة الى حزب سياسي يلعب دورا سياسيا وكأنه موجود في إحدى الدول الأوروبية، وان تهدر المقاومة بنزع شرعيتها المكتسبة بالقتال في سوق النخاسة مقابل اشراكها بعدد من الوزراء وتقديم بعض المناصب لقادتها.
الوثيقة تدعو الفلسطينيين من حيث لا تعلم الى التحضير للطوفان القادم والذي سيليه طوفان آخر، لأنها لا تقدم شيئا للفلسطينيين، ولأن هذا الشعب الذي اختبر كل الألاعيب السياسية التي أوصلته الى اتفاقات عبثية يدرك أكثر من أي وقت مضى أن خيار المقاومة هو الخيار الصائب الوحيد.
جعفر سليم
عضو اتحاد كُتاب وصحافيي فلسطين