أقلام الثبات
منذ أسبوعين كتب يتسحاق بريك في صحيفة هآرتس مقالة تحت عنوان: "الدخول إلى رفح سيكون كارثة"، وأدرج محاذير المغامرة الصهيونية ضمن إثني عشر بنداً، واتصفت هذه المقالة بالواقعية، مقارنة بطموحات بنيامين نتانياهو وأوهام وزير دفاعه يوآف غالانت بالقضاء على "حماس".
يتساءل "بريك" عن الوسائل التي يُمكن أن ينتهجها "جيش الدفاع" عندما يتمّ غزو رفح، لتحييد مليون وأربعمئة ألف مدني فلسطيني، منهم مليون ومئتي ألف من النازحين، وسط تصاعد الاحتجاجات الدولية على المجازر بحق المدنيين، دون أن تضمن الحكومة الصهيونية أن بينهم عشرات الآلاف من المقاتلين الذين سينتقلون بينهم ويعودون الى الأنفاق كما حصل في مدينة غزة ومخيم جباليا بعد انسحاب هذا الجيش منهما.
ويضيف "بريك": ماذا سنفعل مع الكثيرين جداً منهم الذين سيقررون البقاء في مواقعهم، حيث هم؟ كيف سنحارب حماس في الوقت الذي قد يتعرض للأذى كثيرون جداً من الغزيين غير الضالعين، الأمر الذي سيرفع منسوب الغضب العالمي ويقود بالتالي إلى وقفنا بصورة فورية؟
وإن نجحنا في نقل 1,4 مليون لاجئ إلى أماكن آمنة بواسطة مكبرات الصوت والمكالمات الهاتفية والمنشورات الملقاة من الجو، كما قال رئيس هيئة أركان الجيش، فهل تم الأخذ في الحسبان إمكانية أن تقوم حماس بإطلاق رشقات في الهواء والتسبب بحالة من الهلع الجماهيري العام؟ غالباً ما يحصل هذا في ملاعب كرة القدم بسبب الاكتظاظ الشديد، وفي رفح، للسبب ذاته؛ قد يتم دهس وقتل آلاف السكان والمسؤولية الكاملة عن ذلك ستقع على كاهلنا نحن. وماذا عن إمكانية أن يقرر كثيرون السير في اتجاهات أخرى، وليس في الاتجاهات التي نريدها نحن؟ نتحدث هنا عن 1,4 مليون إنسان ومسألة التحكّم بنقلهم/ انتقالهم من مكان إلى آخر هي مسألة إشكالية تماماً، وفي غاية الخطورة، وإذا واصلنا السير في هذا الطريق اللاعقلاني فسنتورط في وضع أمني أكثر صعوبة بكثير وسنصبح بُرْصاً منبوذين ولن نستطيع إعادة المخطوفين.
ويتابع "بريك" تساؤلاته: ألم يأخذ صنّاع القرار في الحساب حقيقة أن تصعيد مستوى القتال مع حزب الله في لبنان بسبب دخولنا إلى رفح، سيستوجب نقل قوات من قطاع غزة إلى الحدود الشمالية وخفضاً آخر لعديد القوات في القطاع؟ إخراج قواتنا من مدينة غزة أعقبته عودة حماس واللاجئين إلى المدينة، وهو ما سيحدث أيضاً في خان يونس والمخيمات في وسط القطاع، بسبب التقليصات الحادة والقاسية التي نُفِّذت في سلاح البرّ خلال السنوات العشرين الأخيرة، وليست لدى "الجيش الإسرائيلي" اليوم قوات فائضة، وحين يتم الاستيلاء على قطاع معين ومواصلة التواجد فيه، يتم تقليص حجم القوات في قطاع آخر.
ويختم "بريك" مقالته بإبداء الخوف أن يؤدي دخول "الجيش الإسرائيلي" إلى مخيمات رفح خلال شهر رمضان إلى إشعال الوضع في يهودا والسامرة؟ من أين سيُؤتى بقوات تحمي السكان اليهود هناك وتدافع عنهم؟ وينتهي بالسؤال المركزي والأهمّ: كيف سيتصرف المصريون؟ حتى هذه اللحظة، ليس هنالك اتفاق معهم حول سيطرة الجيش "الإسرائيلي" على "محور فيلاديلفيا"، وإغلاق الأنفاق من سيناء إلى قطاع غزة.
طوال سنوات عديدة، كانت تتدفق من أنفاق سيناء إلى قطاع غزة، إلى أيدي مسلحي حماس مباشرة، أنوع مختلفة وعديدة من العتاد العسكري، الذخائر، العبوات الناسفة، الصواريخ المضادة للدبابات، وسائل إنتاج الصواريخ وغيرها. المصريون ليسوا مستعدين لإغلاق الأنفاق من جانبهم، لأن لا أنفاق كهذه، حسب ادعائهم. بدون حل متفق عليه معهم، ستبقى مشكلة خطيرة جداً معلقة دونما حل. عملياً، سيكون الأمر وكأننا لم نفعل أي شيء خلال الحرب حتى الآن، لأنّ حماس ستعود إلى التنامي والتعاظم مرة أخرى خلال السنوات القادمة، بفضل الوسائل القتالية التي تنتقل من أنفاق سيناء، من تحت محور فيلادلفيا، والمتصلة بمئات الكيلومترات من الأنفاق المتشعبة تحت قطاع غزة بطوله وعرضه.
وإذا كانت الأنفاق هي الرقم الصعب في قطاع غزة مهما تراوحت أرقام تعدادها وأطوالها ومتفرعاتها، فإن الشعب "الإسرائيلي" ومعه الإعلام وبعض أعضاء مجلس الحرب والمعارضة يتساءلون عن "اليوم التالي" لو اندلعت حرب إقليمية بسبب غزو رفح التي هي آخر ملاذ للنازحين الفلسطينيين، وعلى قاعدة "سيناء أمامكم والعدو" وراءكم، فما هي ردة فعل المقاومة العراقية التي قصفت شاطئ حيفا منذ أيام، والمقاومة اليمنية التي تطال إيلات، والمقاومة اللبنانية التي تحمل منذ سنوات خارطة أهداف لشمال ووسط فلسطين المحتلة، بل ما هو موقف إيران التي تمتلك القدرات الكافية لتدمير "إسرائيل"؟
أمام واقع الجغرافيا الذي لم يحسب له قادة العدو حساباً منذ تأسيس الكيان، فإن دولة بمساحة مليون وستمئة ألف كيلومتر مربع مثل إيران منشآتها الحيوية تترامى على مساحة قارة، كيف للكيان الصهيوني القابع على إثنين وعشرين ألف كيلومتر مربع أن يحمي منشآته منها؟ والجواب أن "إسرائيل" بنت وَهَم أمجادها على الوهن العربي وساعة الحقيقة قد دقَّت و"الشعب الإسرائيلي" يستذكر الآن ما أوردته صحيفة "طهران تايمز" في نهاية شهر ديسمبر 2021، عن بنك الأهداف الذي تضعه إيران على جدول عملياتها عند أول مواجهة مباشرة، من "مفاعل ديمونا" بأبنيته التسعة، الى مركز "ناهال سوريك" للأبحاث النووية، ومنشأة "تيروش" لتخزين السلاح النووي، الى منشأة "يوديفات" للتجميع والتفكيك، ومركز الأبحاث البيولوجية الذي يتبع لمكتب رئيس مجلس الوزراء مباشرة، ومستودع "عيلبون"للتخزين، ومركز "رافائيل" للتطوير، ومعهد "وايزمن" للعلوم، وسواها من عشرات الأهداف التي تتضمن محطات الطاقة والمياه واستخراج النفط، ويبدأ استهدافها تدريجياً؛ من توقيف الحياة الطبيعية داخل الكيان، وصولاً إلى تباشير النهاية الوجودية، وما على "الإسرائيليين" سوى انتظار المواجهة لو أرادوا معرفة حجم كيانهم، سيما أنهم في هذه الحرب بالذات سيسكنون قعر الملاجىء.