مقالات مختارة
– هناك ألف سبب وسبب كي يقول قادة كيان الاحتلال إنهم يتمنون لو يصحون يوماً ويرون غزة وقد ابتلعها البحر، سواء كان القائل هو إسحق رابين أو إبا ايبان او إسحق شامير أو أريئيل شارون، والعبارة تنسب لكل منهم. فقد تسبّب قطاع غزة بالقلق والأرق لقادة الكيان، لأن هذه البقعة الجغرافية الضيقة كانت دائماً علامة فارقة في مقاومة الاحتلال، وموقعاً استراتيجياً حساساً على البحر وعلى حدود مصر وصحراء سيناء وجنوب فلسطين المحتلة، وجاء اكتشاف ثروة الغاز الواعدة في شاطئ غزة، ومشاريع قنوات مائية بديلة عن قناة السويس مثل قناة بن غوريون، ومشاريع الربط الجغرافي للخليج بالبحر المتوسط عبر فلسطين المحتلة، ولكنها تستدعي التخلص من المقاومة والسكان من غزة، التي يفترض أن تصبح حاضرة اقتصادية نموذجية لمشروع “إسرائيل العظمى”، التي يفترض أن تهيمن اقتصادياً على المنطقة، ويصفها أصحاب نظرية “إسرائيل العظمى” في الكيان بهونغ كونغ “إسرائيل” بعد التخلص من سكانها.
– مشروع الترانسفير حلم إسرائيلي دائم، يطال غزة ويطال الضفة الغربية ويصل مع إعلان الدولة اليهودية ليطال فلسطينيي المناطق المحتلة عام 1948، ولذلك من الطبيعي أن ينتعش مشروع تهجير غزة مع بدء حرب الانتقام من الطوفان. وقد رأت حكومة الكيان المكوّنة أصلاً من غلاة المتطرفين، أنها تملك دعماً داخلياً مفعماً بالانتقام إلى حد الإجماع على التوحش الهمجي، وتملك جيشاً يريد إثبات نفسه بعد الصفعة القاسية التي تلقاها في طوفان الأقصى، وتملك دعماً غربياً بلا حدود للانتقام وإعادة إنتاج قوة الردع، وبحجم جدية وحيوية مشروع التهجير في العقل الجمعيّ للكيان من الطبيعي أن يكون القلق من مشروع التهجير هاجساً في العقل الجمعي للفلسطينيين وللمقاومة وللعرب.
– بعد هذه المقدّمات ينتهي الحديث عن خطر التهجير، ويبدأ السؤال متى يكون التهديد بالتهجير أخطر من التهجير نفسه؟ وكيف لا تقع المقاومة في فخ المبالغة بالقلق من خطر التهجير، ولا تبني سياساتها على أحادية هذا القلق؟ ومن أجل إيضاح الفكرة نطرح مثالاً حسياً، حيث تمّ إسكات كل الأصوات المعترضة على مطالبة الحكومة المصرية بفتح معبر رفح، بداعي أنه لا يجوز المشاركة بإحراج مصر التي يكفي أنها تتخذ “موقفاً مبدئياً مشرفاً” برفض التهجير، وتعتبره مساساً بأمنها القومي. وقد تضمّنت بيانات قوى المقاومة الفلسطينية إشادات بالموقف المصري رغم شائنة إقفال معبر رفح أمام المساعدات وربط فتحه بالرضا الإسرائيلي.
– لنطرح السؤال، ماذا لو قام كيان الاحتلال بهدم الجدار الفاصل بين رفح وسيناء، واندفعت أعداد كبيرة من الفلسطينيين نحو سيناء، فما هو السيناريو المتوقع؟ وسوف نكتشف أننا مضطرون لطرح سؤال غائب حالياً في مناقشة مشروع التهجير، وهو: هل يترافق ذلك مع صمود المقاومة ونجاحها بإفشال معركة رفح وإنزال خسائر فادحة بجيش الاحتلال، أم أن ذلك سيرافقه نجاح جيش الاحتلال بسحق المقاومة؟ فإن كان الجواب بقاء المقاومة قوية ومقتدرة فإن أربعة أشياء سوف تحدث، الأول هو أن الكيان سيجد نفسه مجبراً للتفاوض مع المقاومة لتأمين استعادة أسراه. والثاني هو أن الحرب سوف تستمر حتى التوصل الى اتفاق مع المقاومة لوقف إطلاق النار. والثالث أنه بعد التبادل وتثبيت وقف النار سوف يعود أغلب الذين نزحوا من غزة، والرابع هو أن الذين بقوا من السكان في شمال ووسط غزة سوف يبقون ولن يكون بمستطاع الاحتلال إجبارهم على النزوح. وقد جرى شيء مشابه في جنوب لبنان عام 2006 مع النازحين، لأن الاحتلال فشل في سحق المقاومة، وقد عاد من نزحوا في اليوم التالي بمن فيهم الذين ذهبوا بعيداً نحو سورية.
– سوف نكتشف أن خطر مشروع التهجير مشروط بنجاح مشروع سحق المقاومة، وأن نزوح جزء من السكان طلباً للمأوى آمن للأطفال والنساء والجرحى ليس خطراً وجودياً ولا يجب ان يكون مصدر قلق، ولا يجب تعليق الأوسمة على صدر مَن يمنع هذا النزوح ويرفض تقديم هذا المأوى، ويقوم بمنع دخول المساعدات لمن بقوا بداعي أنه يمنع التهجير. وما دامت المقاومة قوية ومقتدرة فلا وجود لخطر اسمه مشروع التهجير، بل إن الذي سوف يجري إذا هدم الإسرائيلي الجدار وفتح طريق النزوح بينما المقاومة قوية، سيكون تحرير المقاومة من ثلاثة أعباء تقيد يديها الآن، الأول هو الجانب الإنساني لحياة مليون ونصف مليون فلسطيني، يجري ربط إدخال المساعدات لهم بأثمان تتصل بالأسرى والبنود الأمنية من أي مشروع تفاوضي، والثاني هو هاجس إحباط مشروع التهجير، فمتى وقع التهجير سقط كفزاعة يجب دفع ثمن سياسي لمنع حدوثها، والثالث هو أن تخفيف العبء السكاني يريح القوى العسكرية من قيود حرية الحركة، كما قالت تجربة المقاومة في جنوب لبنان عام 2006.
– لأن الاحتلال يدرك ذلك، فهو يضغط بالنزوح ويفاوض عليه، ويضغط بملف المساعدات ويفاوض عليه، ويضغط بفرضيّة معركة رفح ويفاوض عليها، فيصنع ثلاث أوراق وهمية ويريد ثمنها، وربما يكون استعداد المقاومة لفرضية النزوح طريقها للتحرّر من القلقين الآخرين، معركة رفح وقضية المساعدات، وإن أرادت مصر أن تمنع التهجير لأنه يقلقها فعليها تأمين منع معركة رفح وتوفير المساعدات الإنسانية على عاتقها، لأن المقاومة لن تدفع ثمناً سياسياً لهذه الثلاثية.
ناصر قنديل ـ البناء
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً