خواطر عربية في ذكرى الثورة الإيرانية

الخميس 15 شباط , 2024 08:28 توقيت بيروت مقالات مختارة

مقالات مختارة

أطلّت علينا منذ أيام ذكرى مرور خمسة وأربعين عاماً على اندلاع الثورة الإيرانية التي أطاحت بنظام الشاه وأقامت نظاماً مناهضاً للسياسات التي تنتهجها الولايات المتحدة و"إسرائيل" في منطقة الشرق الأوسط.

ولأنها اندلعت في مرحلة شهد العالم العربي خلالها انقسامات حادة، بسبب ما طرأ من تغيير جذري على السياسة التي انتهجها الرئيس السادات تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، خاصة عقب زيارته للقدس عام 77، فقد كان من الطبيعي أن تكون لها انعكاسات حادة وبعيدة المدى على مجمل تفاعلات المنطقة، وعلى الأخص ما تعلّق منها بمسار ومصير القضية الفلسطينية. 

ففي 17/9/ 1978، أي قبل أشهر قليلة من اندلاع الثورة الإيرانية، وقّع السادات على اتفاقيتَي "كامب ديفيد" اللتين تسبّبتا في قطع معظم الدول العربية لعلاقاتها الرسمية مع مصر، وفي نقل مقر جامعة الدول العربية إلى تونس.

ولأنه كان يعلّق آمالاً كبيرة على مساندة شاه إيران للخطوة التي أقدم عليها، فقد كان من الطبيعي أن يشعر السادات بخيبة أمل كبيرة من جرّاء اندلاع ثورة نقلت إيران من خانة الدول التي تدور في فلك السياسات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة إلى خانة الدول الرافضة والمناهضة لهذه السياسات. 

وبدلاً من أن يدفعه حدث جلل على هذا القدر من الضخامة لتحسّس خطواته المقبلة، في ظل المعطيات والتوازنات والمعادلات الإقليمية الجديدة التي راحت تفرزها الثورة الإيرانية، ركب السادات رأسه وقرّر اللجوء إلى سياسة الهروب إلى الأمام ومواصلة تحدّيه لجميع القوى الرافضة لاتفاقيتي كامب ديفيد، وهو ما يفسّر إقدامه على استضافة الشاه في مصر عقب خروجه منفياً من إيران في 16/1/1979، أي قبل أسابيع قليلة من سقوط نظام الشاه رسمياً، وقام بالتوقيع على معاهدة سلام منفصل بين مصر و"إسرائيل" في 26/3/1979، أي بعد أقل من شهرين من تدشين نظام ثوري جديد في طهران يوم 11/2/1979.

 والواقع أن هذا النظام الإيراني الجديد بدأ يمارس نشاطه في وقت كان يتجاذب المنطقة تياران يدفع كل منهما في اتجاه معاكس للآخر تماماً، الأول: يسعى للتقارب مع الولايات المتحدة و"إسرائيل"، بدعوى وجود حاجة ماسة لدور أميركي يصعب الاستغناء عنه لدفع الجهود الساعية إلى البحث عن تسوية سلمية للصراع العربي الإسرائيلي وحل القضية الفلسطينية، والثاني: يرى في السياسات التي تنتهجها الولايات المتحدة و"إسرائيل" مصدر خطر رئيسي على استقرار وأمن وازدهار المنطقة، ويسعى بالتالي لمواجهة هذه السياسات والحد من تأثيراتها السلبية. 

وبينما تزعّمت مصر الساداتية التيار الأول، من خلال السياسات التي انتهجتها في أعقاب حرب 73 وسبقت الإشارة إليها، تزعّمت إيران الخمينية التيار الثاني من خلال السياسات التي انتهجتها في أعقاب انتصار الثورة، وهو ما تجلّى بوضوح خلال أزمة الرهائن الأميركيين الذين تمّ احتجازهم في السفارة الأميركية بطهران، من ناحية، وإقدام إيران على طرد السفير الإسرائيلي وتسليم مقرّ السفارة الإسرائيلية في طهران إلى منظّمة التحرير الفلسطينية، من ناحية أخرى. 

لم تتعامل الدول العربية مع النظام الثوري الجديد في إيران استناداً إلى معايير موحّدة، وإنما انقسم العالم العربي في هذا الشأن إلى فريقين متعارضين، الأول: نظر إلى هذا النظام من منظور تأثيراته المحتملة على مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي وعلى مصير القضية الفلسطينية، ومن ثم رأى فيه عمقاً استراتيجياً داعماً للنضال العربي ومرشّحاً لتعويض الخلل الناجم عن خروج مصر من المعادلة العسكرية لهذا الصراع.

الثاني: نظر إليه من منظور تأثيراته المحتملة على الأوضاع الداخلية في بعض المجتمعات العربية، خاصة تلك التي تشكّل فيها الطائفة الشيعية قوة ديموغرافية وسياسية وازنة، ومن ثم رأى فيه نظاماً طائفياً يسعى لتصدير الثورة والترويج للمذهب الشيعي ولنظرية ولاية الفقيه. 

وبينما تزعّمت سوريا بقيادة الرئيس حافظ الأسد الفريق الأول، تزعّم العراق بقيادة صدام حسين الفريق الثاني واصطفت وراءه معظم النظم العربية المحافظة في منطقة الخليج. ولا شكّ أن الولايات المتحدة وجدت في هذه الحالة الاستقطابية فرصة لاستدراج كلّ من العراق وإيران للدخول في حرب استنزاف مدمّرة لكليهما، استمرّت لما يقرب من ثماني سنوات، ثم نجحت في مرحلة لاحقة في استدراج العراق ودفعه لغزو الكويت، بكلّ ما ترتّب على تلك الممارسات من تداعيات صبّت جميعها لصالح "إسرائيل". 

فقد أسفرت هذه التطورات، من ناحية، عن انهيار جبهة عربية كانت تشكّلت عقب زيارة السادات للقدس لتعويض الخلل الناجم عن خروج مصر من معادلة الصراع مع "إسرائيل"، عرفت باسم "جبهة الصمود والتصدّي"، كما أسفرت، من ناحية أخرى، عن ترجيح كفّة النهج الساداتي في التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي، وهو ما اتضح جلياً من خلال انعقاد مؤتمر مدريد الذي حضرته جميع الدول العربية، بما فيها سوريا، ولاحقاً عبر إقدام منظمة التحرير الفلسطينية على التوقيع على "اتفاقية أوسلو" الكارثية عام  1993، ثم توقيع الأردن على اتفاقية "وادي عربة" عام 1994، وذلك في أول موجة من موجات التطبيع العربي الجماعي مع "إسرائيل". 

غير أن إصرار "إسرائيل" على رفضه أيّ تسوية سياسية متوازنة تكفل الحد الأدنى من الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، من ناحية، وإصرار الولايات المتحدة الأميركية على الهيمنة المنفردة على النظام العالمي عقب سقوط وتفكّك الاتحاد السوفياتي، من ناحية أخرى، لم يتركا من خيار آخر سوى العمل على مقاومة المشروع الأميركي الإسرائيلي للهيمنة على مقدّرات المنطقة، وهو ما صبّ في النهاية لصالح التشكّل التدريجي لمحور المقاومة الذي توّلت إيران لقيادته.

بوسع كلّ متأمّل لمجمل التطورات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط على مدى العقود الأربعة المنصرمة أن يلاحظ أن إيران هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي اتسمت سياساتها الخارجية بالوضوح التام وبالاستمرارية، واعتمدت على قواها ومواردها الذاتية في التصدّي لمصادر تهديد أمنها القومي كافة.

فمنذ اللحظة الأولى لاستقرار نظامها الثوري في نهاية سبعينيات القرن الماضي، رأت إيران في الولايات المتحدة و"إسرائيل" عدواً مشتركاً يسعى بكل السبل المتاحة لإسقاط نظامها الثوري واستبداله بنظام عميل، كما رأت أن السياسات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة هي مصدر التهديد الرئيسي لأمنها القومي، ومن ثم فليس أمامها من خيار آخر سوى التصدّي لهذه السياسات والعمل على مواجهتها في مختلف الساحات، وهو ما نجحت فيه إلى حد كبير. 

ويكفي أن نقارن بين الوضع الذي كانت عليه إيران عند نهاية ثمانينيات القرن الماضي، خاصة حين وجد الإمام الخميني نفسه "مضطراً لتجرّع كأس السمّ" من أجل وضع حد للحرب مع العراق، وما هي عليه اليوم، لندرك حجم المسافة التي قطعتها على طريق بناء قدراتها الذاتية.

فإيران اليوم، رغم الحصار والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من جانب الولايات المتحدة، أصبح لديها برنامج نووي قوي أوصلها إلى "العتبة النووية"، وأصبح لديها في الوقت نفسه القدرة على تصنيع معظم احتياجاتها من الأسلحة المتطورة، بما فيها الأسلحة الذكية التي تعتمد على مستويات عالية من التقنية، وتمكّنت من نسج شبكة من الحلفاء الأقوياء الذين يتمتعون بثقل سياسي وعسكري وازن في عدد كبير من الدول المجاورة أو البعيدة، منها لبنان والعراق وسوريا واليمن وغيرها، وتقدّم الكثير من الدعم والإسناد لفصائل المقاومة الفلسطينية التي تخوض حالياً معركة وجودية فاصلة ضد "إسرائيل" في قطاع غزة.

وفي تقديري إنّ ما يجري اليوم على ساحة المواجهة العسكرية مع "إسرائيل"، خاصة بعد "طوفان الأقصى" يثبت جملة من الحقائق التي يمكن تلخيصها وعرضها على النحو الآتي:

الحقيقة الأولى: سقوط الرهان على قدرة الولايات المتحدة أو على رغبتها في تأدية دور الوسيط النزيه للتوصّل إلى تسوية متوازنة للصراع العربي الإسرائيلي، تستجيب للحد الأدنى من الحقوق العربية والفلسطينية. لذا يمكن القول إن الإصرار على الاستمرار في التشبّث بهذا الرهان يعكس نزعة مرضية انتحارية ينبغي التخلّص منها إلى الأبد.

الحقيقة الثانية: استحالة التعايش مع مشروع صهيوني يكرّس كل جهده لإقامة "دولة" يهودية كبرى تهيمن على المنطقة برمّتها. وما لم يتمّ كسر الطابع العنصري الكامن في بنية هذا المشروع، وهو ما لن يحدث إلا بهزيمة "إسرائيل" عسكرياً، فسوف يكون من الصعب العثور على أي صيغة للتعايش معه أو قبوله.

الحقيقة الثالثة: قدرة القضية الفلسطينية على توحيد مشاعر الشعوب العربية والإسلامية ودفعها لنبذ الطائفية والانقسامات العرقية التي ألحقت أضراراً جسيمة بالأمّتين العربية والإسلامية على مدى عقود طويلة، خاصة عقب اندلاع الثورة الإسلامية في إيران.

لذا أعتقد أن الصمود الأسطوري لفصائل المقاومة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، سوف يسهم بشكل كبير في إعادة توحيد الشعوب العربية والإسلامية واصطفافها خلف شعار "وحدة السلاح في وجه العدو المشترك"، إذ ينبغي أن توجّه كل البنادق نحو صدر العدو الصهيوني العنصري والاستيطاني والتوسّعي، ولا شيء سواه. 

 

حسن نافعة ـ الميادين

 

 إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل