أقلام الثبات
عندما أصدرت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون كتابها "خيارات صعبة" في منتصف العام 2014، تنافست دور النشر لترجمته الى عدة لغات، نتيجة تهافت القراء لمعرفة أسرار ما يحصل خلف الأبواب المغلقة في البيت الأبيض، سيما أن الكاتبة عاشت بين جدرانه بصفة زوجة رئيس لدورتين انتخابيتين متتاليتين؛ ما بين العامين 1993 و2001، إضافة إلى كونها عملت مستشارة في الكونغرس الأميركي - هي الحائزة على دكتوراه في القانون - ونافست الرئيسين: باراك أوباما عام 2008، ودونالد ترامب عام 2016، في السباق الى البيت الأبيض، لكن أبرز حقبات مسيرتها السياسية، كانت في تولِّيها وزارة الخارجية خلال الولاية الأولى للرئيس أوباما ما بين العامين 2009 و2013، وزارت بهذه الصفة 112 دولة، وبالتالي كانت هي الدبلوماسية الأميركية الأبرز التي حاكت أو حِيكَت في زمانها حلقات "الربيع العربي".
نحن هنا لا نتناول كتاب "خيارات صعبة" من ناحية شموليته كافة الملفات الدولية التي كانت لأميركا أدواراً فيها؛ في بحر الصين وبورما وأفغانستان وباكستان، والعلاقات مع أوروبا وروسيا وأميركا اللاتينية وإفريقيا، وأبرز أحداث أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وسواها من مناطق النزاع، والكتاب الذي وقع في ستة أجزاء، جاء "الربيع العربي" في جزئه الخامس، وتناول أحداث تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، والصراع العربي - "الإسرائيلي"، مع التركيز على "الإخوان المسلمين" ووصولهم الى سدة الحكم في مصر، والرهان الأميركي عليهم لتقسيم المنطقة، كونهم استُخدموا في خراب سوريا وليبيا وتونس والعراق، لكن الخيبة الأميركية جاءت من مصر، عندما وقف الشعب مع الجيش وأقصى "الإخوان" عن الحكم وأنهى ظاهرتهم السياسية التي ولَّدت قيام منظمات متطرفة كانت وقود "الربيع العربي"، ونُسِب لكلينتون الحديث عن أن حركة حماس باعت فلسطين من أجل الاستيلاء على صحراء سيناء لإقامة دولتها هناك.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإن كلينتون لم تسكن فقط في زوايا البيت الأبيض أكثر من الرئيس بايدن بصفته نائباً لأوباما ولاحقاً في منصب الرئاسة، بل هي عملت مباشرة في ملفات معقدة ومتشابكة خلال فترة التخطيط الأميركي لإقامة "الشرق الأوسط الجديد"، وكانت لأميركا اليد الطولى في إشعال بلدان الشرق، على عكس ما يحصل في العهد الحالي للرئيس بايدن، الذي عجزت إدارته ومعها بعض الدول الغربية عن مواجهة محور المقاومة من جهة، ومن جهة أخرى عدم قدرة البيت الأبيض على تطويع رئيس حكومة بحجم بنيامين نتانياهو لتفادي الحرب الشاملة، بالنظر الى الطاعة التي يدين بها كل رئيس أميركي للوبي الصهيوني والمؤسسات اليهودية.
خلاصة أداء الديبلوماسية الأميركية كما وردت في كتاب كلينتون، أن أميركا تتأقلم مع المتغيرات في البلدان الأخرى عند عجزها عن التغيير، وتتعامل مع الحكومات القائمة وتحاول التعاون معها عبر استخدامها في تحقيق مصالح أميركا لدى بلدان أخرى، دون أن تتطرق كلينتون الى خيبات بلادها في أفغانستان وليبيا واليمن والعراق، وعجزها عن أية مواجهة مباشرة مع دول ومنظمات محور المقاومة، هي التي كابرت على نتائج حروبها على أراضي الآخرين، منذ مستنقع فيتنام حتى غرقها في وحول الشام، وصولاً اليوم الى رمال رفح وسيناء.
ونترك كل "الخيارات الصعبة" التي تطرقت إليها كلينتون، ونتوقف عند اتهامها لمنظمة حماس ببيع فلسطين وتأسيس دولة في صحراء سيناء، خصوصاً أن زميلها في الحزب الديمقراطي الرئيس جو بايدن يقف الآن متردداً مع الصهاينة عند أعتاب رفح، على بعد كيلومترات قليلة من سيناء، وحماس ومعها منظمات المقاومة الفلسطينية والشعب الغزاوي الصامد والصابر، والرافض عن غزة بديلاً لا في سيناء ولا في سواها التي وردت في كل مؤامرات "الترانسفير" الأميركية، ويسطرون ملاحم الصمود البطولي، ومع خطورة اقتحام رفح ذات المليون ونصف مليون ساكن بين مقيم فيها ونازح، يحمل بايدن عبئاً لم يعرفه أي رئيس أميركي في مسألة تورط بلاده في الصراع الفلسطيني - "الإسرائيلي".
ويختلف وضع رفح عن سواها من محافظات قطاع غزة، كونها الملاذ الأخير للنزوح الداخلي الفلسطيني جنوباً، وهي ايضاً على الحدود مع سيناء ومحور فيلادلفيا واتفاقية كامب دافيد المزعومة للسلام مع مصر، ولا رهان فلسطيني في المواجهة على أي جوار عربي، بعد عجز العرب عن تأمين كسرة خبز أو حبة دواء، واسترسال البعض في الحديث عن "اليوم التالي"، في ترداد ببغائي للمطلب الأميركي بوجوب انتقال العدوان "الإسرائيلي" الى مرحلة "اليوم التالي" الذي يتوهَّم الكثيرون أنه سيكون أرحم على وجود الكيان، فيما مليوني فلسطيني ينزحون كما القنابل الموقوتة المكبوتة من شمال القطاع الى جنوبه، ومن جنوبه الى حيث يعتقد الصهاينة أنهم سيكونون مستقبلاً في مأمن من انتفاضاتهم، بعد هكذا عدوان لم يعرفه التاريخ المعاصر، سيما أن ما يحصل في الضفة الغربية حيث اختلاط خمسة ملايين فلسطيني مع المستوطنين العنصريين، هو الذي يؤسس لحربٍ مقبلة، وقد أبدت أميركا قلقها من نتائج اعتداءات هؤلاء المستوطنين على المدنيين الفلسطينيين وأرزاقهم، وشاركتها بريطانيا هذا القلق.
"اليوم التالي"، مهما تنوَّعت محدداته وتفسيرات تفاصيله، هو الإستحقاق الأكبر ما بعد العدوان، وسبعة ملايين فلسطيني باقون في أرضهم ويطالبون بحقوق إقامة دولتهم، وأميركا قبل "إسرائيل" مسؤولة عن الوصول الى إدارة فلسطينية مسؤولة عن حكمهم بإرادة فلسطينية، وهنا يكمن الخيار الأصعب على إدارة بايدن الحالية أو إدارة ترامب المقبلة، من ضمن كل الخيارات الصعبة، لأن الملايين السبعة قادرون على استيلاد آلاف القنابل البشرية، للانتقام لعشرات الآلاف من الأبرياء دماؤهم هي ذخيرة حروب وثورات على الكيان الهجين ما لم تتم إقامة دولة فلسطينية.