مقالات مختارة
– كثيراً ما كان الانتقاد يطال ما يوصف بالبرود الروسي والصيني تجاه الحرب الأميركية الإسرائيلية الوحشية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، بذريعة الانتقام من المقاومة ومن عملية طوفان الأقصى، وسعياً لاسترداد قوة الردع التي هشّمها الطوفان، وغالباً ما كانت الانتقادات تأتي من زاوية السياسة، أي القول بأن محور المقاومة حليف لروسيا والصين في جبهة عالمية لمواجهة الهيمنة الأميركية، وأن موسكو وبكين تعرفان يقينا أن تل أبيب ليست إلا الظل الإقليميّ لواشنطن، كما تعرفان أن واشنطن هي سيدة هذه الحرب التي توسعت وصارت حرباً بين أميركا ومحور المقاومة، مساحتها ممتدة من العراق الى اليمن ومن البحر المتوسط إلى البحر الأحمر، وأن من نتائج هذه الحرب استنزاف أميركا ومهابتها وقوة ردعها، وأن من مترتبات الحرب إشغال أميركا عن حروبها ومواجهتها مع روسيا والصين، حتى أنه على الصعيد اللوجستي تسببت الحرب بتركيز المساعدات العسكرية الأميركية نحو “إسرائيل” والعجز عن تلبية متطلبات أوكرانيا. وبالمقابل كانت الانتقادات تصل للقول، أليس من حقنا على روسيا والصين مواقف أكثر حرارة من مجرد السلوك التضامني في مجلس الأمن الدولي؟
– كان الردّ على هذه المطالبات والانتقادات، من شخصيات في محور المقاومة يأتي مزدوجاً، فيقول من جهة، أن روسيا والصين كحليفين لمحور المقاومة لهما خصوصية تجعل مقاربتهما للقضية الفلسطينية والصراع مع “إسرائيل”، غير متطابقة مع مقاربة محور المقاومة، وثمّة حسابات مصالح وحسابات موازين وأولويات مختلفة، ويقول من جهة موازية، إنه من غير المنطقي مطالبة روسيا والصين بمواقف أكثر قوة بينما المواقف العربية على هذه الدرجة من السوء. ويكفي أن الدول العربية التي تملك اتفاقات سياسية واقتصادية مع “إسرائيل” لم تقم بقطعها، ولا حتى بتعليقها، بل إن بعض الدول العربية تحمّل المقاومة مسؤولية الحرب، ولا تزال تصف المقاومة بالإرهاب. وإذا أخذنا بالاعتبار أن الموقفين الروسي والصيني من المنطقة يأخذان بالاعتبار حسابات المصالح وفي قلبها علاقات بكين وموسكو مع الدول العربية، فيجب أن نفهم أن سقف الموقف الروسي والموقف الصيني يبقى بنسبة كبيرة سقفاً عربياً.
– من الزاوية السياسية قد يكون الردّ على الانتقادات صحيحاً، ومثله الكلام السياسي الذي يقول إن موسكو وبكين من موقع المصلحة تريدان لواشنطن أن تتورّط أكثر في وحول المنطقة، ولذلك تمارسان سياسة النعامة بدفن الرأس في الرمال، لتسهيل هذا التورط الأميركي. وأنه كما كان الانتظار الروسي في حرب سورية لسنوات حتى أصيب المشروع الأميركي بإسقاط سورية إصابات استراتيجية، جعلت إسقاطه محققاً إذا توافرت قوة دفع إضافية يمثلها التموضع العسكري الروسي في سورية، فقامت بهذا التموضع، وكان التوقيت نصف القرار، وموسكو طوال مرحلة ما قبل القرار كانت تتصرّف تجاه الحرب على سورية كما تتصرّف اليوم تجاه الحرب على غزة، بموقف سياسي مبدئي وتدخل مدروس في مجلس الأمن، دون أن يعني ذلك طبعاً التوهم بأن يكون القصد برفع سقف الموقف الروسي تدخلاً عملياً في الحرب على غزة، كما حدث في سورية.
– السؤال الذي يجب طرحه هو على الصعيد الأخلاقي، ومضمونه أن روسيا والصين تحملان لواء الدعوة لنظام عالمي جديد، تقولان إن تعدد أقطابه سوف يكون ضمانة عدالته وتوازنه واحترامه للقانون الدولي، وما يجري في فلسطين ليس حدثاً عالمياً عادياً، بل هو مثال نادر الحدوث، لتقديم المثال الأخلاقي على ماهية هذا النظام العالمي الجديد، وكيفية تصرّف أركانه، فليس لكيان الاحتلال مثيل في العالم لجهة التمرّد على القرارات الدولية وانتهاك القوانين الدولية، وليس في العالم احتلال وفصل عنصريّ مثل حال كيان الاحتلال. وليس في العالم امتداد زمني لعقود دون مساءلة ومحاسبة بفعل الحماية والمحاباة من الدولة العظمى التي ترعى النظام العالمي القائم، فهل يكون مقبولاً التخلي عن الواجب الأخلاقي بتقديم المثال عن كيفية التصرّف تجاه هذا النموذج غير القابل للتكرار، من طرفيه، طرف المعتدي وطرف المعتدى عليه، بأعذار السياسة؟ وأي ثقة بهذا النظام العالمي الجديد سوف تطلب من الشعوب ما دام دعاته الجدد يتصرّفون وفق حسابات مصلحية وسياسية في قضايا يتقدمها المعيار الأخلاقي؟
– ما فعلته جنوب أفريقيا بحمل قضية مذبحة غزة إلى محكمة العدل الدولية، ليس فعلاً سياسياً بل هو فعل أخلاقي، وما فعلته بوليفيا وتشيلي وكولومبيا، بقطع العلاقات مع كيان الاحتلال احتجاجاً على المذبحة، ليس سياسة بل أخلاق. والسؤال هو أليس من حق شعوب العالم بمعزل عن مفهوم التحالفات والمصالح وموازين القوى، أن ترى أن النظام العالمي الجديد المرتجى يستحقّ الرهان، لأن أركانه ودعاته يتصرّفون على قاعدة المعيار الأخلاقي، وهم وقد رأوا الجرائم تمر دون عقاب قرّروا بالحد الأدنى العقاب المتاح لهم كدول فقاموا بتعليق العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والتجارية مع كيان الاحتلال لحين وقف المذبحة؟
– من حقنا أن نسمع جواباً أخلاقياً لا سياسياً، على تحدٍّ جوهره الأخلاق، وفي لحظة لا يحتاج فيها العالم إلى أكثر من الأخلاق. فالحديث عن نظام عالمي جديد يقوم على توازن المصالح بين الدول الكبرى، لا يستحق عناء السعي ولا الانتظار، لكن السعي والانتظار يليقان بنظام عالميّ تحكمه المعايير الأخلاقية.
ناصر قنديل ـ البناء
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً