مقالات مختارة
تستخدم العبرية مصطلح (دم عل هيديام) "دمٌ على اليدين" لوصف "من قتل أشخاصاً في هجوم، وشارك في عمل إرهابي مميت"، وهو تعريفٌ يتمّ بموجبه تصنيف الأسرى الفلسطينيين بحسب خطورة أعمالهم. تطوّر مفهوم "دم على اليدين" في تموز/يوليو 2003، كجزء من المبادرة الإسرائيلية الأولى لإطلاق سراح أسرى فلسطينيين كلفتة تجاه الرئيس محمود عباس "أبو مازن".
منذ ذلك الحين وضِعت هذه المعايير، وكانت كلّ المبادرات التي تلتها تستند إلى مبدأ "الدم على اليدين"، وهو معيارٌ ابتدعه "الشاباك"، جهاز المخابرات الإسرائيلية العامة، وليس معياراً قانونياً.
ففي "إسرائيل" لا يوجد قانون يحدّد الإجراءات المتبعة للموافقة على إطلاق سراح أسرى فلسطينيين في أيّ صفقة تبادل، بل هو إجراء يستند إلى ممارسة تمت في مرات سابقة وترسّخت في الوعي الإسرائيلي العام. والمبدأ التوجيهي، الذي تعزّز نتيجة للضغط الشعبي والسياسي، هو عدم إطلاق سراح سجناء فلسطينيين "ملطّخة أيديهم بالدماء".
بين الأعوام 1948-1975، أجرت "دولة إسرائيل" عدداً من صفقات تبادل الأسرى مع الدول العربية (مصر، سوريا، الأردن ولبنان)، أطلقت فيها سراح عدة آلاف من السجناء الذين تمّ أسرهم في الحروب المختلفة. وهذا مردّه حقيقة أنّ "إسرائيل" أسَرَت خلال الحروب، أسرى عرَباً أكثر من جنود "الجيش" الإسرائيلي الذين تمّ أسرهم لدى الطرف الأخر، لذلك أطلقت "إسرائيل" سراح أسرى جنود أكثر بكثير مما تلقّت في عمليات التبادل، وفي بعض الحالات أُطلِق عدد قليل مقابل عدة آلاف.
في 25 حزيران/يونيو 2006، أسرت حماس الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط من منطقة كرم أبو سالم، واقتيد إلى قطاع غزة وظل في قبضة المقاومة لأكثر من خمس سنوات. وبعد مفاوضات طويلة ومعقّدة للغاية استمرت عدة سنوات أُطلق سراح جلعاد شاليط في النهاية في 18 تشرين الأول/أكتوبر 2011، مقابل 1046 سجيناً فلسطينياً ومنهم "قتلة يهود وأيديهم ملطّخة بالدماء"، وفق التعبير الإسرائيلي، وعلى رأسهم يحيى السنوار الذي تضعه "إسرائيل" اليوم على رأس قائمة المطلوبين لديها وتنسب إليه التخطيط لأحداث طوفان الأقصى.
عقب اختطاف جلعاد شاليط شكّلَ وزير حرب الاحتلال إيهود باراك لجنة برئاسة القاضي المتقاعد شمغار لوضع معايير واضحة للسلوك الإسرائيلي في حالة وقوع جنود أو مستوطنين في الأسر. في حزيران/يونيو 2009 قدّمت اللجنة استنتاجاتها، ومنذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا لم يجرِ نقاش واحد في حكومة الاحتلال حول استنتاجات اللجنة وظلت توصياتها حبيسة الأدراج.
بين العام 1975 ولغاية أسر جلعاد شاليط شهدت "إسرائيل" عدداً كبيراً من عمليات الأسر الأخرى "لعسكريّين ومدنيين" إسرائيليين، مما اضطرها إلى إجراء مفاوضات وصفقات تبادل إضافية مع ما تسميها "التنظيمات الإرهابية" بهدف الإفراج عن أسراها. قدّرت "إسرائيل" أنه من المحتمل أن صفقات الأسرى التي تمّت مع الدول العربية، بعد كل الحروب، عزّزت سلوك "المنظمات الإرهابية" وفتحت شهيتها لخطف وأسر جنود ومقايضتهم بأسرى فلسطينيين وعرب، خاصة وأنها أدت إلى نشوء معادلة غير متماثلة، على حساب "دولة إسرائيل" في كل عمليات التبادل التي حدثت، وأوجدت نسبة "جندي إسرائيلي واحد مقابل عشرات أو حتى مئات الجنود العرب".
هذا الوضع المعقّد الذي وصلت إليه "دولة" الاحتلال في مواجهة تنظيمات المقاومة أصبح مثاراً للجدل إلى حد كبير، سواء بين الجمهور الإسرائيلي أو بين القيادة والنخب الأمنية والسياسية.
وقد خلق تناقضاً حاداً بين القيم القومية الدينية حول أهمية إعادة الأسرى وفدائهم، أو إحضار القتلى لدفنهم في "إسرائيل" من جهة، والخوف من تأكّل قدرة الدولة على الردع نتيجة المساومة الناشئة عن صفقات التبادل من جهة أخرى، وربما الأسوأ من ذلك، تأكّل مكانة "إسرائيل" الأمنية الاستراتيجية وموقعها على الساحة الدولية.
تَعتَبِر "إسرائيل" أن فداء الأسرى هو قيمة دينية وطنية يوليها جمهورها أهمية كبيرة، إلى جانب أهمية مراعاة التحفّظات على الأثمان التي تدفعها مقابلهم، وهو ما عزّز القلق من أن "القيمة المرتفعة" للأسرى اليهود ستشجّع على اختطافهم. لذلك تبنّت "إسرائيل" موقفاً رسمياً ودينياً حذر من التداعيات واسعة النطاق فيما يتعلّق بالسلامة العامّة والردع الأمني "لدولة إسرائيل"، لأنه "من الخطأ إيذاء جمهور بأكمله من أجل الاستجابة لسلامة فرد أو بضعة أفراد".
أثارت الأثمان الباهظة التي بدأت تدفعها "دولة إسرائيل" مقابل عودة أسراها انتقادات شعبية شديدة، تطوّرت إلى جدل داخلي أساسي حول "طبيعة الثمن الذي يجب دفعُه مقابل عودة المختطف الإسرائيلي من قبضة التنظيم الارهابي!".
هناك من يدّعي أن الثمن الباهظ الذي تدفعه "دولة إسرائيل" يُلحق ضرراً كبيراً بالأمن القومي ويؤدّي إلى تأكّل الردع بشكل كبير. وعلى الجانب الآخر هناك من يدّعي أنه "يجب أن نفعل كلّ شيء من أجل إعادة كلّ جندي أو مواطن إسرائيلي، حياً أو ميتاً!"، ولكن من دون تعريفٍ واضح لا لبس فيه لمعنى وحدود "كل شيء"!
أولئك الذين يؤيّدون الحجة الثانية، يبنون موقفهم على خلفية الصدمة الوطنية الإسرائيلية التي تطوّرت على مرّ السنين بسبب عدم عودة الطيار الإسرائيلي رون أراد، وهم يزعمون أنه "إذا ذهب جنودنا إلى المعركة من دون أن يعرفوا أنّ دولة إسرائيل ستفعل كل شيء من أجل إعادتهم، سيؤدي ذلك إلى الإضرار بدوافعهم القتالية، وبالتالي الإضرار بالقدرة القتالية لمقاتلي الجيش الإسرائيلي والأمن القومي بشكل عام".
هذه المواقف المتناقضة خلقت نقاشاً داخلياً عاصفاً للغاية لم يتمّ حلّه حتى اللحظة، خاصة وأن "إسرائيل" لم تقم بفحص تجريبي أو حتى تقديرٍ للأثمان التي هي مستعدة لدفعها مقابل إطلاق سراح أسرى من سجونها، بعد كل صفقات التبادل التي تمت في الماضي، حيث نُفّذِت كل صفقة بشكل منفصل، ومن دون أي صِلة جوهرية بما سبقها من صفقات. ولم تتمكّن "إسرائيل" لغاية اليوم من بلورة "استراتيجية أمان" لهذه المعضلة التي تعيشها، بحيث لا يكون من الممكن مناقشة أو حتى الخوض في جدال حول الثمن الذي ستدفعه "الدولة" بالفعل.
وبالتالي لا مخرج، في الواقع، أو لا حلّ للنقاش العقيم حول الطريقة التي على "إسرائيل" أن تتّبعها للخروج من مأزقها. من الواضح أن الجدل العام حول هذه القضية يصبّ في مصلحة المقاومة ويلعب إلى جانبها، فقد حوّل الحدث التفاوضي من حدث أمني ـــــ سياسي تكتيكي، إلى حدث وطني استراتيجي له نفوذه الكبير جداً داخل "اللعبة" السياسية الإسرائيلية، وصعّب الأثمان التي تترتّب عليه.
فمن ناحية، من الواضح أنه لا يوجد "ثمن سوقي" لكل جندي أو مدني إسرائيلي أسير، ومن ناحية أخرى، فإن "دولة إسرائيل" لم تحدّد مبادئ توجيهية في إطار إجراء المفاوضات مع فصائل المقاومة من أجل عودة أسراها أحياءً أو أمواتاً. ولذلك فإن الجدل العام المؤثّر للغاية حول هذه القضية يصبح في الواقع جدلاً عقيماً لا مخرج منه، لأنه لا ينطلق من نقطة مرجعية واحدة واضحة.
إنّ الواقع أكثر تعقيداً، وهناك اعتبارات كثيرة ومتنوّعة، فالإسرائيليون حساسون للغاية من الناحية الأمنية، ومثقلون ومعقّدون، وبالتالي سيتمّ إجراء الصفقة في سياق الاعتبار الذي ثبّتته "إسرائيل" مع خصومها تاريخياً، والقائم على أساس فرضية أن معادلة الثمن والقيمة لا ينبغي أن تكون متساوية، ولا يمكنها الحصول على صفقات متوازنة للغاية.
تدرك "إسرائيل" أنها تُضطرّ، مرةً تلو الأخرى، إلى الخضوع، وأحياناً بشكل واضح جداً، والتنازل عن المبادئ التي أعلنتها في بداية مفاوضات صفقة التبادل، ومنها عدم إطلاق سراح أسرى "مع دم على اليدين"، التي ابتدعتها في محاولة لرسم حاجز لما هو مسموح وممنوع تجاوزه في صفقات التبادل المختلفة.
من الواضح كذلك، أن المقاومة اليوم تعرف كيفية إدارة هذه المفاوضات بطريقة صعبة مع مقدرتها على الحصول على "عائد أعلى" من الصفقات التي سبقتها، وربما تحصل في نهايتها على كل ما طلبته منذ البداية تقريباً.
ومن هنا يمكننا الافتراض أن الصفقة التالية التي ستعقدها "إسرائيل" مع المقاومة هذه المرة، على الأقل، ستبدأ بدرجة أو بأخرى من المكان الذي انتهت عنده صفقة شاليط، وانطلاقاً من "الثمن" الذي تقدّر أنها تستطيع الحصول عليه، خاصة عندما تستند النقطة المرجعية لهذا التقدير إلى الأثمان التي دفعتها "إسرائيل" في الصفقات السابقة، وربما أكثر بكثير مما دفعته في صفقة شاليط الأخيرة.
محمد هلسة ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً