مقالات مختارة
في كانون الثاني/يناير 2021، عرض "معهد أبحاث الأمن القومي" الإسرائيلي ما سمّاه "لعبة الحرب"، وهي "سيناريو رد محتمل لمواجهة تؤدي إلى حرب في الشرق الأوسط بين المحور الذي يضمّ إيران وسوريا وحزب الله، وإسرائيل والولايات المتحدة والإمارات".
اللافت في السيناريو إشارته إلى أن الحرب تنطلق "في الساعة 04:30 فجراً من خلال إطلاق 6 صواريخ من غرب العراق في اتجاه إسرائيل". ووفق السيناريو، فإن أحد تلك الصواريخ "سينجح في خرق منظومة الدفاع، وسيصيب بشكل مباشر مبنى شاهق الارتفاع في تل أبيب، فيقتل 6 إسرائيليين ويصيب 30 شخصاً آخرين". ويتابع السيناريو: "بالتوازي مع الصواريخ المطلقة من العراق في اتجاه إسرائيل، تُطلق صواريخ على مجمع السفارة الأميركيّة في بغداد، ما يسفر عن مقتل جندي من المارينز".
لم يكن هذا السيناريو الموضوع في حينها مجرّد عرضٍ لاحتمال بين عدة احتمالات، بل كان قراءة واقعية وملموسة للدور الذي سيؤديه العراق في أي مواجهة تُختبر فيها ساحات القتال مع الاحتلال الإسرائيلي، نظراً إلى ما أظهرته فصائل المقاومة العراقية من استعداد لذلك، ولا سيما في الفترة التي سبق أن أعقبت استشهاد قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس ورفاقهما. وبما أنَّ "لعبة الحرب" التي طرحها المعهد الإسرائيلي شملت الساحة العراقية في سياق إطلاق صواريخ على "إسرائيل"، فإنّ أهمية هذا الطرح تكمن في عدم فصله استهداف الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عن الاحتلال الأميركي للعراق.
سيناريوهات المقاومة العراقية
بعد نحو 3 أعوام على هذا السيناريو، ما يحصل الآن هو التالي: تشترك المقاومة الإسلامية في العراق كساحة من ساحات المواجهة والإسناد بعد "طوفان الأقصى". تستهدف المقاومة العراقية القواعد الأميركية في العراق وسوريا بالصواريخ والمسيرات. وبالتوازي، تقصف أهدافاً استراتيجية للاحتلال الإسرائيلي وصلت إلى البحر الأبيض المتوسط، ومن ضمنها موانئ حيفا وأسدود.
تفرض المقاومة الإسلامية في العراق سيناريوهات فيما يخص إسناد المقاومة الفلسطينية، منطلقةً من أن الولايات المتحدة الأميركية هي المحرّك الأساسي للعدوان على غزة، والضغط عليها له المساهمة الأكبر والأكثر تأثيراً في وقف العدوان، لكن في المقابل، فإن واشنطن لا تتحرك وفق قواعد الاشتباك هذه فقط، إذ إن مخاوفها تتجاوز مسألة إسناد غزة إلى مسارين ممكنين: تهديد الوجود العسكري والأمني الأميركي بشكل مباشر في مراحل لاحقة، وتصاعد قوّة المقاومة العراقية، بحيث لا يمكن ضبطها أو الحد من حضورها وتأثيرها.
ضمن المسار الأول، لم تأخذ قوى المقاومة العراقية ما طرحته واشنطن منذ بدء محادثات انسحابها من العراق على محمل الجد، باعتبار أن هذا الطرح "ملغوم"، ويراد منه كسب الوقت لتحييد صواريخ ومسيّرات المقاومة عن ساحات المواجهة، تحت ذريعة أن المحادثات لا يمكن أن تتم في ظل استمرارها، وخصوصاً أن تلك المباحثات ستستغرق أشهراً، مع الأخذ بالاعتبار أنها ليست المرة التي تطرح فيها واشنطن مثل هذه الطروحات. وبناء عليه، فإن استهداف القواعد الأميركية في سوريا والعراق سيستمر ما استمر العدوان على غزة بشكلٍ أساسي، ومن المحتمل أن يكون له منحى جديد في حال توقفت الحرب على غزة بما يرتبط مباشرة بالوجود الأميركي.
وضمن المسار الثاني، فإن تصاعد قوة المقاومة العراقية وتأثيرها سيأخذ خطوات متقدمة من حيث التجهيز في العديد والعتاد. وإذا كانت واشنطن تسعى إلى تفتيت قوى المقاومة وتفكيكها، فإن هذه القوى تعمل في إطار وطني جامع بأبعاد إقليمية أثبتت التطورات الأخيرة أن بيئة العراق الشعبية والاجتماعية ترحب بها وتدعمها، باعتبار أن الأحداث التي رافقت "طوفان الأقصى" كانت اختباراً لذلك. ومن الواضح أن البيئة العراقية بمختلف مكوناتها الدينية والعشائرية والقومية اجتمعت على دعم هذه الخطوات. أكثر من ذلك، فإن العراق لم يشهد هذه التوافق الداخلي في مسألة معينة منذ وقتٍ طويل.
تحاول واشنطن فصل مشروع المقاومة العراقية عن مشروع الدولة ككل، من خلال ربطه بأجندات خارجية حصراً أولاً، ووضعه في إطار تعارضه مع المصالح الوطنية ثانياً، في حين أن المقاومة تتمسك بشرعيتين مرتبطتين ببعضهما بعضاً، هما: مواجهة الاحتلال الأميركي ضمن بعد وطني، وإسناد القضية الفلسطينية ضمن بعد إقليمي. وتتحرك المقاومة استراتيجياً كقوّة سياسية وعسكرية قادرة على رفد العراق كدولة بكل مقومات التأثير الإيجابي في ملفات المنطقة، بما يتناسب مع أهمية بغداد وما تمتلكه من مقدرات وثروات من الناحية الجيوسياسية.
خطوات واشنطن السابقة والحالية وما هو متوقع في الأسابيع والأشهر المقبلة يندرج كله ضمن سؤالين: ما الذي تريده الإدارة الأميركية من العراق؟ وما الذي يمكن للعراق أن يقوم به في حال سار في اتجاهٍ معاكس للسياسات الأميركية في المنطقة؟ وبما أن الغزو الذي مرّ عليه أكثر من 20 عاماً لم ينتج عراقاً أميركياً، كما سعت إليه واشنطن، فإن ما تريده سيكون صعب التحقق. لذلك، ستعمل على عرقلة أي مسار تتخذه بغداد في الاتجاه المعاكس.
المرحلة المقبلة ستكون مرحلة "من يسبق الآخر بخطوة". ومن المهم الاعتراف ببعض الإخفاقات والثغرات الداخلية التي استغلها الأميركي في فترة اغتيال الشهيدين سليماني والمهندس، والتي جعلت خطوات القوى السياسية العراقية بطيئة وبجدوى أقل. لذا، فإن ما تشهده الساحة العراقية حالياً من تحصين للجبهة الداخلية تحت عناوين محددة سيكون أرضية متينة لما هو قادم على صعيد الأهداف المعلنة، فوجود العراق كساحة من ساحات المواجهة الموحدة ضد "إسرائيل" والولايات المتحدة ستكون له تبعات خطيرة جداً، ولا سيما أن ذلك يمس بالحضور الأميركي سياسياً وأمنياً في أكثر المناطق أهمية لواشنطن في العالم.
استناداً إلى ما تقدمه جبهات الإسناد، ومن ضمنها العراق، للقضية الفلسطينية، فإن مسألة "اليوم التالي للحرب على غزة"، ونقطة الخلاف الأميركية – الإسرائيلية بشأن ذلك، تتعلق برؤية مختلفة لواشنطن؛ فبينما تتحدث حكومة الاحتلال الإسرائيلي عن "غزة بعد الحرب"، فإن الإدارة الأميركية تنظر إلى "المنطقة بعد الحرب". ويعد العراق أحد أهم المرتكزات التي تخشى منها واشنطن وتخطط لها في آن، وهي تعلم جيداً أن التنسيق بين الساحات على صعيد مواجهة الحضور الأميركي في المنطقة كبير جداً، وأنه وصل إلى مراحل متقدمة، ألمح إليها الأمين العام لحزب الله أخيراً بقوله إن "طوفان الأقصى فرصة لتحرير المنطقة من الاحتلال الأميركي".
وإذا كان معهد الأمن القومي الإسرائيلي قد وضع "سيناريو حرب" عام 2021، تبدأ من العراق، وتستهدف "تل أبيب"، فإن الأخير تجاوز هذا السيناريو إلى مرحلة استهداف الموانئ الإسرائيلية وحصارها في شرقي البحر المتوسط، وهذا بحد ذاته إتقان لمبدأ "إدارة المواجهة"، تصطدم خلاله "إسرائيل" بـ"وحدة الساحات"، والتنسيق فيما بينها أيضاً، ارتباطاً بما يحصل عند باب المندب وفي البحر الأحمر، الأمر الذي يعيد ترتيب الأوراق المبعثرة، أميركياً، ضمن استراتيجية جديدة للبحار والمضائق، وليس "إسرائيل" فقط.
كبح واشنطن جماح التهور الإسرائيلي في فلسطين المحتلة يرتبط بتأثير الجبهة الفلسطينية وتأثرها بكل الجبهات والساحات، وهذا ما باتت الإدارة الأميركية متيقنة منه، و"طوفان الأقصى" المستمر أعطى نموذجاً عما يمكن أن تقدمه الساحة العراقية. باتت مشكلة واشنطن مع هذا النموذج أنه يهدم كل ما كانت تسعى إليه من غزوها عام 2003، بحيث كانت تريد العراق ساحة لمواجهة إيران وسوريا وتقويض القضية الفلسطينية، ليصبح ساحة صديقة حليفة لإيران، تستهدف القواعد الأميركية في سوريا، وتسند القضية الفلسطينية وتدعمها عسكرياً وسياسياً .
عباس محمد الزين ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً