مقالات مختارة
لو كان بنيامين نتنياهو يعلم مسبقاً أنّ عدوانه المدمر الواسع النطاق الذي بدأه يوم الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، على قطاع غزة لن يحسم الحرب خلال أيام قليلة كما تعوّدت عليه «إسرائيل» في حسم حروبها السابقة مع دول عربية، لتوقف طويلاً أمام الذي كان سينتظره ويفاجئه.
في خضمّ الصراع العربي الإسرائيلي، لم يسبق لدولة الاحتلال والإرهاب الإسرائيلية أن خاضت حرباً مدمرة، استخدمت فيها أكثر الأسلحة الفتاكة في العالم، وتعمّدت من خلالها ارتكاب أبشع المجازر الوحشية، وقيامها بتدمير ممنهج شامل، طال المدن والقرى، والمرافق الخدمية، والعامة، والمخيمات الفلسطينية كافة، في قطاع صغير، حيث لم يشهد العالم من قبل مثيلاً لهذه الفظائع والجرائم بحق الشعب الفلسطيني.
رغم مجازر «إسرائيل» الهمجيّة، والإبادة الجماعية، والتهجير القسري، لم يستطع نتنياهو وجيشه أن يحقق إنجازاً سياسياً، رغم اقتراب «إسرائيل» من نهاية الشهر الرابع على حربها الهمجيّة، ورغم انحياز، ووقوف، ودعم دول غربية مستبدّة عنصرية، وفرت له ولكيانه كلّ وسائل الدعم المالي، والعسكري، واللوجستي، والاستخباري، والإعلامي، والسياسي، والدبلوماسي.
لم يتصوّر مجرم الحرب والقادة العسكريون والسياسيون الصهاينة لحظة، أنّ صموداً أسطورياً لم يعرفه التاريخ العالمي من قبل، لقطاع صغير بحجم قطاع غزة، فرضت عليه دولة الاحتلال الصهيوني، حصاراً قاسياً وتجويعاً وقتلاً وتدميراً، فاق كلّ تصوّر، سيُذلّها ويعرّيها ويكشف حقيقتها العنصرية الوحشية أمام شعوب العالم كلها، ويمرّغ أنف مجرم الحرب وجيشه في تراب غزة.
لقد أحيت غزة القضية الفلسطينية من جديد بعد أن كادت تُصفّى، وأسقطت الرهان الإسرائيلي على تعب ويأس الفلسطينيين. كما كشفت القناع عن وجه «إسرائيل» البشع في العالم، ووجهت ضربة صارمة لمسار التطيع، وبيّنت لشعوب العالم زيف السلوك لقوى الهيمنة وهي ترفع شعارات الحرية وحقوق الإنسان، فيما هي، وبكلّ وقاحة تقف الى جانب دولة الإرهاب، غير عابئة بمواقف شعوبها، ولا بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي اتخذته 153 دولة فيها، ويدعو الى وقف إطلاق النار. قرار اعترضت عليه الولايات المتحدة راعية الكيان، متحدية قرار المجتمع الدولي برمّته.
أمام التطورات الخطيرة المتداعية داخل كيان الاحتلال
وموجة الاستنكار العالميّة العارمة، والإدانة الدولية، وغضب وسخط شعوب العالم الحرة، وتنديدها بسياسات «إسرائيل» العدوانية، وبعد اشتداد رياح المعارضة المدنية والعسكرية داخل الكيان «الإسرائيلي»، متهمة نتنياهو، بالتقصير والفشل الذريع في تحقيق الأمن والاستقرار للكيان، يبدو أنّ نتنياهو المتخبّط اليائس، قرّر الذهاب بعيداً في إطالة أمد الحرب، مراهناً على الوقت، وعلى «تعب» المقاومة، مستغلاً الدعم الأميركي -الأوروبي المطلق له، ما يجعله غير قادر على التراجع أو التوقف عن عدوانه، قبل أن ينجز ما خطط له مسبقاً، من أهداف استراتيجية في قطاع غزة، ألا وهو القضاء على المقاومة نهائياً، واجتثاثها من جذورها، ومن ثم تطهير القطاع من سكانه وتهجيرهم، وإن عجز عن ذلك، تسليمه الى سلطة عميلة تحوز على رضى دولة الاحتلال وحلفائها في الغرب والمنطقة، سلطة هشة عميلة، تعمل على وأد القضية القلسطينية، وتتماشى مستقبلاً مع تطلعاتهم وأهدافهم ومشاريعهم.
من الخطأ المميت والخطر الأكبر، ترك نتنياهو وجيشه يستفردان بقطاع غزة ومقاومته، لا سيما أنه لا ضوابط ولا حدود تقيّد مجرم الحرب، بعد الدعم والتأييد المتواصل لـ «إسرائيل» الذي لم يتوقف حتى اللحظة من دول غربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي لم تحرك ساكناً وهي ترى بأمّ العين ما يرتكبه جيش دولة الإرهاب من مجازر وحشية، وإبادة جماعية بحق الفلسطينيين على أرض غزة.
إنها مسؤولية جبهات المقاومة المفتوحة، إذ أنّ هذه الحرب، وأياً كان المنتصر فيها، وأياً كانت نتائجها، سترسي معادلة استراتيجية جديدة لمنطقة غربي آسيا تغيّر وجه المنطقة كاملاً لصالحه. معادلة سيرسمها الذي سيصمد طويلاً وينتصر عند انتهاء الحرب. لذلك لا يمكن التهاون والتغافل، أو فكّ الارتباط بين الجبهات في صراعها مع العدو، أو القبول بحالة استرخاء أو فراغ على جبهة من الجبهات، حتى لا يأتي اليوم الذي تستفرد فيه «إسرائيل» بكلّ جبهة على حدة، وهذا ما تراهن عليه، وترمي إليه. فوحدة الجبهات هي التي بإمكانها ان تصمد طويلاً، وتستنزف العدو في عقر داره، الذي وصل اليوم الى وضع حرج للغاية، لا يعرف كيف يخرج من المستنقع الذي وضع نفسه فيه، دون أن يحقق هدفه العسكري والسياسي من عدوانه.
حرب غزة، هي اليوم المفصل في الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، وهي حلقة من حلقات المقاومات للاحتلال الإسرائيلي، ومواجهة نفوذ قوى الهيمنة، والاستغلال، ومصالحها في منطقة غربي آسيا.
نتنياهو المأزوم يبحث عن حلّ، وعن نصر بأيّ شكل من الأشكال، وأياً كان حجمه، لينقذ نفسه في الداخل الإسرائيلي، وإن أدّى الأمر به الذهاب بعيداً في عدوانه. إنه في صراع مع الوقت الذي استهلك أياماً طويلة من حربه العدوانية، والتي تركت الكثير الكثير من آثارها السلبية على مجتمع الكيان الإسرائيلي، واقتصاده، وأمنه، وتصدع ثقته بقادته، ودولته، وشكوكه في عمر كيانه واستمراريته، الذي بدأ يهتز بالصميم، وبشكل كبير غير مسبوق منذ تأسيس الكيان العنصري المؤقت في فلسطين عام 1948.
إنّ وحدة المقاومات في المنطقة، وصمودها في وجه العدوان والاحتلال، مطلب استراتيجي ضروري وفوق كلّ اعتبار، هي وحدة الصف والهدف للمقاومات المتكاملة المشتركة، الكفيلة بجعل العدو الإسرائيلي يركع في نهاية المطاف، ويفشل في تحقيق أهدافه مثل ما حصل ذات يوم من شهر آب/ أوغسطس 2006 في جنوب لبنان.
لتكن ساحة غزة لنتنياهو، كما كان جنوب لبنان لإيهود باراك مقبرة لجيشه.
غزة الأسطورة تبهر العالم اليوم بصمود مقاوميها، وانتصارهم لفلسطين، وهي تشاهد جيش مجرم الحرب يغرق في رمالها المتحركة. جيش قال عنه مؤخراً رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك «إنه بعيد عن تحقيق أهدافه في غزة».
إنّ هزيمة «إسرائيل» في هذه الحرب، نعني دكّ إسفين فيها، وبداية العد العكسي لنهايتها.
لقد حققت «إسرائيل» في حروبها مع الجيوش العربية، انتصارات عديدة، لكن بوصلة الانتصارات غيّرت وجهتها من تل أبيب الى ساحات المقاومة في لبنان منذ عام 2006، وغزة مع أعوام 2008، و2009، و2012، و2014، و2021.
إنّ تنامي القدرات العسكرية لجبهات المقاومة، تقضّ على الدوام مضجع «إسرائيل»، وتخلخل كيانها المؤقت شيئاً فشيئاً، ويوماً بعد يوم، ما يجعلها أمام حقيقة لا مفرّ منها، وهي أنّ الصراع العربي – الإسرائيلي صراع طويل لن يتوقف، وأنّ المقاومين العرب، وأحرار الأمة لن يتخلوا مطلقاً عن حقهم في استعادة أرضهم مهما طال الزمن.
إنّ حقوق الشعب الفلسطيني، وخطر العدو الصهيوني على وجود الأمة، ووقائع الحرب وظروفها تفرض نفسها على الساحة.
فلا مجال لجبهة المقاومة في المنطقة الخروج من ساحة الحرب إلا بنصر مهما كلف ذلك من تضحيات وأثمان باهظة، دفاعاً عن مستقبل شعوب المنطقة، وحفاظاً على ارضها وأمنها ووجودها.
إنها الحرب المفتوحة التي ستغيّر بنتائجها وجه المشرق ومساره، وتضع حداً لعربدة «إسرائيل» وجيشها…
د. عدنان منصور ـ البناء
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً